بينما تتعثر محاولات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتحقيق السلام في كل من غزة وأوكرانيا، لم تحقق محاولته لإخماد فتيل الحرب بين تايلاند وجارتها كمبوديا نجاحاً صامداً. فمنذ إعلانه في 26 أكتوبر المنصرم عن توصل بانكوك وبنوم بنه إلى اتفاق سلام تحت رعايته وبمساعدة ماليزية، لم يتوقف التراشق العسكري بين البلدين الآسيويين، بل راح يتوسع وتزداد ضحاياه من مدنيين وعسكريين.
بينما كل جانب يلقي اللوم على الآخر، أو ينفي تعهده لواشنطن بوقف القتال، والرئيس ترامب يردد أنه تحدث إلى زعيمي البلدين وتوصل معها إلى اتفاقية سلام، وكان آخره وقت كتابة هذه السطور.
والمعروف أن النزاع بين البلدين قديم، يعود تاريخه إلى حقبة الاستعمار الفرنسي لكمبوديا، ويدور حول السيادة على أراضٍ حدودية ومعابد بوذية أثرية، ناهيك عن شكوى بانكوك الدائمة من أعمال التهريب وغسيل الأموال وتجارة البشر التي يمارسها الكمبوديون عبر الحدود المشتركة الممتدة على طول 817 كيلومتراً.
أما التدخل الأمريكي في النزاع، فيُعزى إلى حرص واشنطن من جهة على المحافظة على أمن واستقرار وازدهار تايلاند باعتبارها حليفة استراتيجية للغرب ودولة آسيوية شريكة لحلف الناتو من خارجها، وحرصها من جهة ثانية على علاقة تعاون ناشئة حديثاً مع كمبوديا المعروفة تقليدياً بدورانها في الفلك الصيني/ الروسي.
ورغبتها من جهة ثالثة في قطع الطريق على الصين لجهة استغلال الوضع المتأزم في تحقيق طموحاتها التوسعية في المنطقة، خصوصاً في ظل الاهتمام المتزايد من قبل بكين بقاعدة ريام البحرية الكمبودية الواقعة في خليج تايلاند، وقيام الصينيين بتحديثها وتطويرها (تخشى واشنطن أن تحصل بكين على امتيازات خاصة في قاعدة ريام، وأن يمنحها ذلك جناحاً استراتيجياً في الجنوب تفتقر إليه، فتستخدمه ضدها في حال اندلاع حرب بينهما حول تايوان أو تفاقم الصراع في بحر الصين الجنوبي).
ما يهمنا هنا هو أن الحرب بين تايلاند وكمبوديا التي بدأت بتراشق محدود عبر الحدود البرية المشتركة في مايو المنصرم، ثم تجددت وتوسعت في يوليو الفائت، تحولت اليوم إلى صراع خطير امتد إلى الحدود البحرية في «خليج تايلاند» المشترك.
ففي ديسمبر الجاري أعلنت البحرية الملكية التايلاندية ذات التدريب الأمريكي الحديث عن استعدادات طارئة لإيقاف جميع السفن العاملة في خليج تايلاند في مجال نقل الوقود والإمدادات إلى كمبوديا، بما في ذلك اعتراض وتفتيش السفن التايلاندية المبحرة تحت أعلام وسجلات أجنبية.
وذلك في قرار وصفه الكثيرون بما يشبه فرض حصار بحري على كمبوديا، بعد أن لاحظت بانكوك استخدام سفن محلية وأجنبية كثيرة للخليج في الإبحار إلى سنغافورة لنقل الوقود والإمدادات منها إلى كمبوديا. بل حمل البيان التايلاندي تهديداً صريحاً مفاده أن شركات الشحن التايلاندية التي تسهل رحلات السفن، وملاكها، وموردي الوقود والمؤن وغيرهم من ذوي العلاقة سوف يحاسبون حساباً عسيراً.
وطبقاً لبعض المراقبين، فإن ما دفع السلطات التايلاندية إلى مثل هذه الإجراءات ليس تهريب النفط والمؤن فحسب، وإنما أيضاً قيام بنوم بنه، التي تفتقد سلاحاً جوياً فعالاً لمواجهة سلاح الجو الملكي التايلاندي المعزز بأحدث المقاتلات والحوامات الأمريكية، بنشر طائرات مسيرة صينية المنشأ فوق خليج تايلاند لتهديد منصات النفط التايلاندية، أو قصفها عند الضرورة.
هذا علماً بأن بكين هي المزود الرئيسي للجيش الكمبودي بالأسلحة، بل زودتها بأسلحة لم تبعها إلا لعدد محدود من الدول مثل منظومة صواريخ PHL-03 بعيدة المدى القادرة على ضرب أهدافٍ على بُعد 130 كيلومتراً.
والمعروف أن «خليج تايلاند»، تبلغ مساحته 123550 كيلومتراً مربعاً، ويشكل ممراً مائياً مهماً في غرب المحيط الهادي، وتحده تايلاند وكمبوديا وفيتنام وماليزيا، وتنتشر فيه جزر مأهولة بالسكان من تايلاند وكمبوديا ومنشآت بحرية ومنصات نفطية تديرها شركة شيفرون الأمريكية لحساب الحكومة التايلاندية. والمعروف أيضاً أن الأسطول الأمريكي السابع يستخدم هذا الخليج عندما ترسو حاملات طائراته وسفنه بالقرب من بانكوك.
وإزاء هذه التطورات، عاد ترامب ليصرح أنه سوف يتحدث مرة أخرى إلى رئيس الحكومة التايلاندية «أنوتين تشارنفيراكول» وزعيم كمبوديا القوي «هون سين»، ليحثهما على وقف التصعيد والالتزام باتفاقية السلام التي أشرف عليها شخصياً في أكتوبر الماضي، قائلاً:
«أعتقد أنني أستطيع فعل ذلك بسرعة. أعتقد أنني أستطيع إقناعهم بوقف القتال. من غيري يستطيع فعل ذلك؟»، وقد نفذه بالفعل وتوقف القتال، لكن يبقى السؤال إلى متى؟
إن فرص ترامب في النجاح هذه المرة كسابقتها من وجهة نظرنا، إلا إذا قرر الرئيس الأمريكي استخدم أدوات ضغط تجارية أو عسكرية تمتلكها واشنطن، مثل التهديد بفرض تعرفات جمركية عالية على صادرات البلدين إلى الولايات المتحدة، أو تهديد كمبوديا بالتراجع عن رفع الحظر المفروض على مبيعات الأسلحة لها، وإلغاء المناورات العسكرية المشتركة معها، والمتفق على إجرائها في عام 2026.