في عطلة نهاية الأسبوع الماضي، جلست مع كتابين، شعرت معهما أنني أستعيد مفاتيح قديمة لفهم المزيد حول تطور الحاضر ورؤى المستقبل، الأول كتاب «اختراع التقاليد»، تحرير «إيريك هوبزباوم» و«تيرينس رينجر»، ترجمة «أحمد لطفي»، والثاني كتاب «جامع الأمثال ومأثور الأقوال والحكم والكنايات عند أهل الإمارات» للدكتور فالح حنظل. وبينهما أيضاً عدت أسترجع كتابي «سوسيولوجيا العادات والتقاليد لمرحلة الميلاد في مجتمع الإمارات»، وكأنه دفتر ملاحظات من زمن قريب، وزمن بعيد في الوقت نفسه. ثلاثة كتب فتحت أمامي سؤالاً واحداً بأكثر من زاوية: كيف تصنع المجتمعات تقاليدها، وكيف تحفظها، وكيف تتعامل مع التحول حين يتسارع، وحين يصبح الإيقاع اليومي أسرع من قدرة الذاكرة على الحفظ؟

شدني في «اختراع التقاليد»، فكرة جوهرية حول المجتمعات حين تمر بتحولات حادة، تبحث عن رموز تجمعها، وعن طقوس تمنحها شعوراً بالاستمرارية. بعض التقاليد يتشكل من تلقاء الحياة، وبعضها يُعاد ترتيبه في لحظة تاريخية، كي يحمل رسالة هوية أو وحدة أو معنى، ولاحظت أن هذه الفكرة تلامس تجربتنا المعاصرة بعمق، لأن الإمارات عاشت في عقود قليلة قفزة حضارية هائلة، ومع القفزة يتغير شكل اليوم العادي، وتتغير لغة البيت، وتتغير علاقة الإنسان بالمكان، ثم نكتشف أن التقاليد حين تتحول إلى عرض موسمي، تفقد شيئاً من دفئها، وحين تبقى ممارسة يومية، تصبح جزءاً من النفس.

في كتاب الدكتور حنظل، تتمثل مرآة أخرى. فالأمثال والحكم والكنايات أيضاً تروي ذاكرة مجتمع كاملة مضغوطة في جملة قصيرة، فالمثل الشعبي عند أهل الإمارات، يحمل اقتصاد اللغة، ويحمل أيضاً فلسفة العيش، مثلاً طريقة في النظر إلى الكرم، وإلى العمل، وإلى الحذر، وإلى العلاقة بين الناس. والمدهش في الأمثال التي جمعها الدكتور حنظل، أنها تحفظ القيم من غير خطاب مباشر، يكفي أن تُقال في مجلس، حتى يفهم السامع الرسالة، ويبتسم، ويتذكر.

في كتابي حول سوسيولوجيا العادات والتقاليد، كانت الفكرة الأساسية، أن أصل هذه التقاليد تبدأ من اللحظة الأولى من استقبال الحمل، ومن طقوس الولادة، ومن الأغاني التي تُقال للطفل، ومن المفردات التي تُهمس قرب سريره. هناك يتشكل الإيقاع الأول للانتماء. الطفل يتلقى العالم عبر اللغة، قبل أن يتلقاه عبر التعليم. البيت يزرع المعنى قبل أن تزرعه المدرسة. ومجتمع الأمس كان يهب الطفل مفرداته الأولى من صميم البيئة: من البحر والصحراء، من أسماء الأشياء اليومية، من نداءات الأمهات، من مجالس الرجال، من صبر النساء، من تفاصيل الجيرة والفرح والستر.

ما أدهشني في كتاب الدكتور فالح حنظل، أنه يقدم الأمثال كمجتمع كامل في هيئة جمل قصيرة. فالكتاب جاء في بناء علمي دقيق، قائم على الجمع والتصنيف والشرح والتحليل، حتى أصبح أشبه بخريطة واسعة للقيم التي حكمت حياة الناس. وما يلفت هنا، أن المؤلف قد اختار التصنيف الموضوعي، فجمع الأمثال تحت مواد الحياة نفسها، أهل وعائلة، طعام، عمل، بحر، صحراء، صدق، كرم، بخل، وأبواب كثيرة، تمتد إلى أكثر من خمسة وتسعين موضوعاً. كل موضوع هنا أشبه بنافذة تطل على حديقة لها ألوان زاهية، وكل مثل أصبح وكأنه جملة تحمل تاريخاً، وتضيء سلوكاً عاماً.

يشرح كتاب الدكتور حنظل «الأطر الأربعة» للأمثال عند أهل الإمارات، الأول إطار يمتد من التراث العربي العام، وأمثلة منه مثل «الجار قبل الدار»، الذي يحمل قيمة اجتماعية واسعة، تتجاوز المكان، والثاني إطار خليجي يحمل الفكرة المشتركة بصيغة لهجية محلية، أما الثالث، فهو إطار إماراتي خاص، يتشكل من البيئة الاجتماعية هنا، والرابع إطار يخص إمارة بعينها، حيث ارتبط المثل بحادثة أو سياق محلي، وهذا التقسيم يعلّمنا أن المثل الشعبي يحمل ذاكرة متعددة الطبقات: ذاكرة عربية، وذاكرة خليجية، وذاكرة إماراتية، وذاكرة مكانية دقيقة. وهذه الطبقات تمنح المثل قوته، لأن المجتمع يشعر أنه يتحدث بلسان قريب منه، وفي الوقت نفسه، يمد جذوره إلى فضاء أوسع.

في«اختراع التقاليد» يقدم الكتاب فكرة أن التقاليد قد تأخذ شكلاً رسمياً مع التحولات الكبرى، وأن الطقوس قد تدخل في دائرة الترتيب وإعادة التقديم حين يتسارع الزمن، وحين تبحث المجتمعات عن رموز توحدها، وحين تلتقي هذه الفكرة مع كتاب الأمثال، تصبح أكثر ثراء، فهناك اختراع للتقاليد على مستوى الطقس والرمز والاحتفال، وهناك «وراثة» للتقاليد على مستوى المثل الشعبي والعبارة اليومية، وهي جميعاً «سوسيولوجيا العادات» التي تعمل في الفضاء العام، وتعمل أيضاً في الفضاء الحميم، سواء لإثبات الهوية في المشهد الخارجي، أو لإثباتها داخلياً وذاتياً.

وللحديث بقية..