لم تعد الحكمة اليوم كافية لفهم ما يجري، ولا العقلانية وحدها ضمانة للثقة، فنحن نعيش زمناً تتشابك فيه الوقائع إلى درجة تجعل الحليم حيراناً، والعاقل متسائلاً، والباحث عن الحقيقة مشدوداً بين روايات متناقضة، وضجيج لا يهدأ.

نعيش في عالم تتلاحق فيه الأحداث من دون أن تمنح الإنسان فرصة لالتقاط أنفاسه، حيث تتبدل الحقائق بسرعة، ويتراجع اليقين أمام سيل جارف من الفوضى والالتباس، فوضى تبدأ من ميادين الحروب والاضطرابات السياسية.

حيث تتسع رقعة النزاعات، وتتشابك المصالح، وتتمدد إلى الأوبئة والأمراض، التي لم تعد أزمات صحية فحسب، بل تحولت إلى ساحات صراع للمعلومات المتناقضة.

في هذا المناخ المشحون يصبح القلق حالة عامة، ويغدو عدم اليقين هو القاعدة لا الاستثناء، غير أن أخطر وجوه هذه الفوضى لا يرى بالعين المجردة، بل يتسلل إلى العقول عبر الشاشات، فوسائل التواصل الاجتماعي، التي كان يفترض أن تكون جسوراً للتواصل والمعرفة، تحولت في كثير من الأحيان إلى أدوات قادرة على إعادة تشكيل الرأي العام، وصناعة القناعات، وتوجيه المشاعر الجماعية في لحظات.

منشور واحد، صورة واحدة، أو مقطع فيديو قصير، قد يشعل الرأي العام، أو يزرع الذعر، أو يدمر سمعة، قبل أن يتضح لاحقاً أنه مضلل، أو مجتزأ، أو مختلق بالكامل.

ومع التقدم المتسارع في تقنيات الذكاء الاصطناعي لم يعد التزييف مقتصراً على الأخبار الكاذبة، بل أصبح بصرياً وسمعياً مقنعاً إلى حد مخيف.

ويتفاقم هذا المشهد حين يمتد التضليل إلى مجالات تمس حياة الإنسان مباشرة. في القطاع الصحي تنتشر نصائح غير علمية، ومعلومات طبية مغلوطة قد تهدد الأرواح، وفي مجال الأغذية تختلط الدراسات العلمية بالشائعات، أما في الاقتصاد والسياسة فتقدم التحليلات على أنها حقائق، وتسوق التوقعات وكأنها مسلمات.

ويجد المتابع نفسه أمام مئات المنشورات المتناقضة حول القضية الواحدة؛ كل كاتب يفسّر ويحلل من زاويته، وكل جهة تدعي امتلاك الحقيقة. تتراكم الآراء، وتتضارب التفسيرات، حتى يصبح القارئ عاجزاً عن التمييز بين الصادق والكاذب، وبين التحليل الرصين والادعاء المجرد.

في هذا الواقع يصبح المشهد أشبه بما يصفه التعبير البدوي الدقيق: «ظلمى ودليلها أعمى»!

وسط هذه الفوضى ما زالت دولة الإمارات تحافظ على وضوح رؤيتها في مختلف المجالات. رؤية تقوم على التخطيط طويل المدى، وبناء الإنسان، والاعتماد على العلم والمعرفة.

تسير بخطا واثقة نحو مستقبل أكثر ازدهاراً واستدامة وتميزاً، مستندة إلى مؤسسات راسخة، وقرارات مدروسة، وإيمان عميق بأن الاستقرار الحقيقي يبدأ من وضوح الرؤية، ومسؤولية الكلمة، واحترام العقول.

في عالم يصبح فيه الحليم حيراناً يبقى الوضوح خياراً واعياً، لا يتخذه إلا من يدرك أن المستقبل لا يبنى بالضجيج والفوضى، بل بالحكمة والبصيرة.