لطالما اشتكى العالم من تحول تايلاند إلى بؤرة آسيوية للاحتيال الدولي والعصابات الإجرامية. وهذا الوضع، بطبيعة الحال، لا دخل لنظامها السياسي والإداري فيه، بقدر ما هو ناجم عن جغرافيتها السياسية، أي وقوعها بين دولتين معروفتين بعدم الاستقرار والانفلات الأمني وضعف السلطة المركزية.

ويبدو أن الأمور قد بلغت الزبى ولم تعد الحكومة التايلاندية بقيادة رئيس الوزراء «أنوتين تشارنفيراكول»، قادرة على تحمل ما يوجه لها من انتقادات. ودليلنا هو الأخبار الواردة من بانكوك حول القبض على زعماء عصابات ومصادرة أموال قذرة ومساءلة مصارف محلية منخرطة في عمليات غسيل الأموال.

ولا يستبعد أن تكون هذه الحملة خطوة استباقية من قبل الحكومة لتجنب احتمال تعرضها لغضب الرئيس دونالد ترامب، وبالتالي التعامل معها على طريقة تعامل ترامب مع حكومة مادورو الفنزويلية، مع فارق الحالة طبعاً.

ففي مطلع ديسمبر الجاري، تم الإعلان في بانكوك عن أن السلطات التايلاندية صادرت أكثر من 300 مليون دولار في حملة ضد مجرمين دوليين كانوا يغسلون الأموال عبر مصرفين محليين، انطلاقاً من مراكز احتيال إلكتروني في كل من كمبوديا وميانمار المجاورتين.

أعقب ذلك خروج رئيس الوزراء للإعلان بنفسه عن أن تحقيقات مكثفة وطويلة كشفت أن شبكة احتيال خطرة مكونة من العديد من الأشخاص مارست أعمالاً إجرامية، وأنه ألقي القبض على ثلاثة من زعمائهم الرئيسين، وصودرت مبالغ نقدية تصل إلى عشرة مليارات بات.

غير أن المزيد من التفاصيل ظهر في تقرير للشرطة تم توزيعه على وسائل الإعلام، وجاء فيه توجيه التهمة رسمياً بالتآمر وإدارة عصابة إجرامية والاحتيال العام وغسل الأموال إلى المقبوض عليهم، والتأكيد أن أكثر من 12 شخصاً من كبار المشتبه بهم لا يزالون طلقاء.

وأن من بين هؤلاء الطلقاء المدعو «يم ليك» الذي يترأس شبكة مالية في كمبوديا تدعى بيك (BIC)، ويشتبه في قيامه بجلب أموال إجرامية قذرة إلى تايلاند لأغراض غسلها أو استثمارها تجارياً، من خلال حسابات وهمية في مصرفين تايلانديين.

في تقرير لاحق للشرطة الوطنية، تمت الإشارة إلى أن تحقيقات إضافية أدت إلى تحديد هوية 42 مشتبهاً، ألقي القبض على 29 منهم من خلال حملة قادها فريق «اقتلاع المحتالين العابرين للحدود الوطنية» الذي تم تأسيسه حديثاً بعد أن تضاعفت الضغوط الإقليمية والدولية على تايلاند.

ولا سيما من قبل واشنطن بموجب «قانون تفكيك شبكات الاحتيال الأجنبية» الذي طرح على الكونغرس الأمريكي في سبتمبر الفائت، وهو قانون استهدف إنشاء فرق عمل مشتركة بين الوكالات الأمنية في الدول الصديقة ومثيلاتها في الولايات المتحدة لتفكيك وإغلاق شبكات الجريمة العابرة للحدود الوطنية، من تلك التي تمارس عمليات احتيال جماعية عبر الإنترنت ضد الأمريكيين (طبقاً لتقديرات حكومية أمريكية، خسر الأمريكيون في عام 2024 وحده ما لا يقل عن 10 مليارات دولار بسبب عمليات الاحتيال في جنوب شرقي آسيا، بزيادة قدرها 66% عن العام السابق).

والجدير بالذكر أن تعاوناً من هذا النوع بين واشنطن وبانكوك جدير بالتبني، وسينجح حتماً مثلما نجح تعاون وكالة المخابرات المركزية الأمريكية مع قيادة عمليات الأمن الداخلي التايلاندية زمن الحرب الباردة في قمع ومطاردة الشيوعيين وأشباههم.

بل إنه قد يرعب السلطات في كمبوديا وماينمار، فيدفعها إلى ضبط حدودها مع تايلاند، وتشديد رقابتها على الأنشطة القذرة ومطاردة الشبكات الإجرامية.

والحقيقة التي يجب على السلطات في تايلاند وكمبوديا وميانمار خصوصاً، والسلطات في جنوبي آسيا وجنوب شرقي آسيا عموماً إدراكها، أن هناك تعاوناً دولياً آخذاً في التنامي والتوسع لمحاصرة كل أشكال الجرائم الاقتصادية وشبكاتها، وبالتالي فإن الأعين باتت ترصد أكثر من أي وقت سابق.

ويكفي أن نشير إلى أن ما حرك المياه في تايلاند ضد العصابات المذكورة، كان مجرد حصاة ألقاها الصحفي السنغافوري المعروف بملاحقة الفضائح حول العالم «توم رايت» في فعالية عقدت في نوفمبر المنصرم بنادي المراسلين الأجانب في بانكوك.

حينما قال ما مفاده أن تايلاند تستخدم بكثافة كمركز لغسيل الأموال، وأن مبالغ نقدية ضخمة توضع في أكياس وتحمل على متن طائرات خاصة مقلعة من بنوم بنه إلى مطارات تايلاندية مختلفة، و«أنك إذا سمحت بذلك دون تدقيق أو تحقيق فسوف تخسر بلدك وتصبح سيادتك موضع شك».

لم يكتفِ رايت بذلك، بل أشار إلى اسم واحد من أكبر المتورطين وهو غاسل الأموال الجنوب أفريقي «بنيامين ماوربرغر» صاحب العلاقات والارتباطات المشبوهة بعدد من القادة والمستثمرين التايلانديين والكمبوديين.

وتقول منظمات حقوق الإنسان الدولية إن مراكز احتيال يدير معظمها صينيون، تستغل أكثر من 120 ألف شخص من دول عدة ككمبوديا وميانمار وباكستان للعمل لديها بعد اختطافهم وتدريبهم وإجبارهم على الاحتيال الإلكتروني.