والجُمل الحاسمة صارت عبئاً على قائلها، وفي المقابل، أصبح الالتباس مساحة آمنة، لا يُسأل صاحبها عما يعنيه تماماً، ولا يُحاسَب على ما لم يقله صراحة، وهكذا تغيّر ميزان الخطاب، فلم يعد الوضوح ميزة، بل مخاطرة حقيقية..!
وفي هذا السياق، يُقاس الذكاء الاجتماعي بمدى القدرة على التملص، فالوضوح بات عبئاً تداولياً، يُعرّض صاحبه للمساءلة، بينما ينجو من يترك كلامه معلّقاً بين احتمالات متعددة، ولم يعد السؤال المطروح: هل الفكرة دقيقة؟ بل هل هي مرنة بما يكفي لتتحمل التأويل وإعادة التموضع؟.
فالوضوح يضع صاحبه في موقع مكشوف داخل دائرة الأخذ والرد، بينما يمنح الالتباس هامشاً آمناً، يسمح بإعادة ترتيب الموقف عند أول احتكاك، وهكذا تتحول اللغة من وسيلة لإنتاج المعنى، إلى أداة لإدارة المخاطر، ويصبح إبقاء الجملة مفتوحة، جزءاً من استراتيجية تخفيف التكلفة الرمزية لأي موقف.
فيتحوّل إلى قضية رأي عام، أو نقد مهني في بودكاست اجتماعي، يُفهم كاتهام، أو رأي بسيط يُعامل كإعلان موقف نهائي، لهذا، يميل كثيرون إلى ترك العبارة في منطقة وسطى
فالمسؤول يتجنّب التصريح المباشر بالأولويات، كيلا تُفهم كوعود ملزمة، والمثقف يكتفي بالتلميح، لأن أي قول صريح قد يُدرجه تلقائياً ضمن اصطفاف فكري لا ينوي تبنّيه أصلاً
والكاتب يقدّم فكرته بصيغة احتمالية، كيلا تتحوّل إلى التزام، وفي سياق افتراضي ممتد، يتضخم فيه التأويل، وتُحمّل الكلمات أكثر مما تحتمل، يصبح الوضوح مجازفة غير ضرورية، بينما يوفر الغموض مساحة تحمي المتكلّم من ضغط التوقعات، وثِقل المواقف النهائية.
وفي المقابل، يُمنح الغموض هالة العمق، حتى حين يكون بلا مضمون حقيقي، وما يحدث هنا، ليس اتساعاً في أفق التفكير، بل تعليق دائم له، فالتعليق يخلق وهم الانفتاح، لكنه يُعطل القدرة على اتخاذ موقف، ويجعل العقل يقيس ردود الفعل، قبل أن يختبر صحة الفكرة.