المهاجر لا يترك ذاكرته الاجتماعية خلفه، بل يحمل معه تصوراته عن السلطة، والمال، والعلاقات العامة، حتى وهو يتعلم لغة المجتمع الجديد، ويحصل على جنسيته، ويشارك في مؤسساته.. تجارب بعض السياسيين من أصول مهاجرة في الديمقراطيات الغربية، تكشف هذا التوتر بوضوح.
فهناك من يتعلم في الغرب، ويتشبع بقيم دولة القانون، ويصل إلى مواقع متقدمة في الحكم والبرلمان، لكنه حين يتعامل مع ساحة بلده الأصلي، أو مع شبكاتها الاجتماعية والسياسية، يجد نفسه أمام منطق مختلف في فهم السلطة، وحدود الفصل بين العام والخاص. ما يعد تجاوزاً جسيماً في دولة القانون، قد يُنظر إليه في بيئة أخرى بوصفه ترتيباً اجتماعياً، أو التزاماً عائلياً، أو جزءاً من ثقافة العلاقات الممتدة.
الإشكالية هنا لا تكمن في نصوص القوانين، فكثير من الدول باتت تمتلك تشريعات حديثة متقاربة، بل في الثقافة التي تحكم طريقة تطبيق هذه القوانين. ففي المجتمعات الديمقراطية المستقرة تُفهم الدولة بوصفها كياناً محايداً، والمنصب العام تكليفاً يخضع للمساءلة الصارمة.
أما في مجتمعات أخرى، فلا تزال الدولة خليطاً من الرسمي وغير الرسمي، ويتداخل المنصب العام مع العائلة والجماعة والمصالح الخاصة. في مثل هذه البيئات، يصبح الخلل نتيجة منطق اجتماعي متجذر، أكثر منه رغبة واعية في خرق القانون. الهجرة الناجحة إلى الغرب، أنتجت نماذج سياسية بارزة من أصول أفريقية وآسيوية وعربية، وهو دليل على مرونة الديمقراطية وقدرتها على استيعاب التنوع.
غير أن هذا الاندماج المؤسسي لا يعني بالضرورة اندماجاً ثقافياً كاملاً في الطبقات العميقة من الوعي، فالثقافة لا تتغير بجنسية ولا بقرار إداري، بل عبر تراكم طويل من التجربة والتعليم والتحول الاجتماعي داخل المجتمع والأسرة.
الخطر الحقيقي يبرز حين يعيش السياسي المهاجر بين ساحتين في الوقت نفسه، ساحة دولة القانون الصارمة التي صنعت صعوده، وساحة بلد الأصل التي يحكمها منطق مختلف في إدارة النفوذ والعلاقات. في هذه اللحظة، قد يظن أنه قادر على الجمع بين القاعدتين، لكنه يكتشف متأخراً أن العالم أصبح شديد الترابط، وأن الخطأ في ساحة ما، يمكن أن يُحاسَب عليه في ساحة أخرى، وأن الانتماء المزدوج، قد يتحول من مصدر قوة إلى مصدر مخاطرة.
المهاجر في صميم هذه المعادلة يعيش قلقاً دائماً. فهو مطالب بأن يكون نموذجاً للاندماج الكامل في بلد الإقامة، ومطالب في الوقت نفسه بالوفاء لشبكات الانتماء في بلد الأصل. فإذا انحاز كلياً لقواعد الدولة الحديثة، اتُّهم بالتنكر لجذوره، وإذا راعى اعتبارات البيئة القديمة، دخل في دائرة الشبهة والمساءلة. وهكذا يبقى معلقاً بين عالمين، لا ينتمي بالكامل لأي منهما، ولا يستطيع الفكاك التام من أحدهما.