من الصعب أن نفصل بين جلال الأماكن والوجوه التي مرّت في أروقتها وسكنت ذاكرتها، فالمكان حين يحفظ ملامح من مروا به، تتحول جدرانه إلى مرايا تتقن رواية الحكايات الكبرى، وتعكس صور الرجال الذي صنعوا مجد أوطانهم، وتعيد تشكيل الزمن، كما لو أنه ما زال يمشي بيننا.

هكذا بدا «قصر المويجعي» ليلة الاحتفال بتوزيع جوائز الدورة الرابعة من «كنز الجيل»، الجائزة التي ينظمها مركز أبوظبي للغة العربية، كأن القصر يستعيد أنفاس الماضي، ليهب الحاضر عبقاً لا يخطئه القلب.

في هذا القصر، الذي يشكّل متحفاً حيّاً للذاكرة الإماراتية، عاش المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، عندما انتقل إلى مدينة العين عام 1946، ممثلاً للحاكم في المنطقة. وفي الغرف التي يلمع فيها أثر الخطوات الأولى نحو حلم الوطن، تشكّلت أبعاد شخصية مؤسس الدولة، وتكوّنت ملامح رؤية ستقود لاحقاً نهضةً غير مسبوقة.

وفي المكان نفسه، وُلد المغفور له، الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، طيب الله ثراه، وقضى سنواتٍ من طفولته وشبابه، ليظل القصر شاهداً على بدايات قائدين كبيرين، حملا راية الوطن، وسطرا مسيرة المجد.

لم يكن اختيار مركز أبوظبي للغة العربية «قصر المويجعي»، لإقامة حفل «كنز الجيل»، مجرد قرارٍ يحتفي بالمكان، بل كان قراراً يحتفي بالذاكرة، وبالرمز، وبالجذور التي تنبثق منها قصة الوطن. فاليوم، وبلادنا تحتفل بعيدها الوطني الرابع والخمسين، يبدو القصر وكأنه يستعيد دورَه الطبيعي، جسراً يصل بين زمنين، زمن زايد الذي أرسى الأساس، وزمن الإمارات التي تمضي بثقة نحو المستقبل.

قبل نحو قرن من الزمان بُني القصر، في عهد الشيخ زايد الأول، على يد ابنه الشيخ خليفة بن زايد بن خليفة آل نهيان. لكنه اكتسب قيمته الكبرى، عندما اتخذه الشيخ زايد، عليه رحمة الله، مقراً لإقامته، وديواناً للحكم، ومكاناً لرؤيةٍ تُصاغ في هدوء واحة العين وتحت ظلال أشجارها.

كل زاويةٍ في المكان تحمل أثراً لمرحلةٍ مفصليةٍ في تاريخ الوطن، كأن الجدران ما زالت تنصت إلى أحاديثه الأولى عن البناء والوحدة والإنسان، وعن الحلم الذي كان يتشكل بهدوءٍ ورويّة.

في ليلة الاحتفال تلك، بدا القصر وكأنه يفتح بواباته للحضور، محتفياً بثمرة جهد أربع دورات من جائزةٍ تحتفي بالشعر النبطي، بوصفه مرآة الروح الإماراتية، وصدى ذاكرة الشيخ زايد، عليه رحمة الله، الذي ترك في قصائده خارطةً وجدانيةً للأرض والناس والحياة. لقد جاءت الجائزة، منذ تأسيسها، امتداداً لتلك الروح التي ترى في الشعر صوتاً للهوية، وفي الكلمة وثيقةً تحفظ الإحساس قبل الحدث، لتحتفي بالتجارب الشعرية المتميزة وتكرمها.

داخل أسوار القصر، التقت مشاعر الحاضرين بفرحة المكرَّمين، فكأن الشعر يعود إلى بيته الأول، إلى المكان الذي كان الشيخ زايد فيه يستلهم من الواحة والفلج وشموخ النخيل، ما يكتبه قلب الإمارات لسنواتٍ طويلة.

كانت الأمسية أشبه بمشهدٍ تتشابك فيه الخيوط، خيطٌ من الماضي يستند إلى ذاكرة القصر وساكنه الراحل، وخيطٌ من الحاضر، ينسجه الفائزون في فروع الجائزة المختلفة، وخيطٌ من المستقبل، يلمع في عيون الذين جاؤوا ليشهدوا أن الهوية لا تُحمل فقط، بل تُعاش وتُصان.

لم تكن «كنز الجيل» في تلك الليلة مجرد جائزة تُمنح لشاعرٍ أو باحثٍ أو فنانٍ أو مبدع، بل كانت احتفاءً بالموروث الذي صاغ وجدان هذه البلاد، وبالقيم التي زرعها الشيخ زايد، رحمه الله، في قلوب أبنائه، محبة الأرض، والوفاء للتاريخ، والإيمان بأن الثقافة ليست ترفاً، بل ركيزة من ركائز بناء الأوطان.

وفي ظل الاحتفال بالعيد الوطني الرابع والخمسين، بدا الحدث وكأنه يؤكد أن الدول التي تحفظ ذاكرتها تحفظ مستقبلها، وأن الشعر حين ينبع من الجذور، يتحول إلى ضوءٍ لا ينطفئ.

وعندما أسدل الليل ستائره، وبدأ الحاضرون يغادرون أروقة القصر، بدا المكان كأنه يضمّ بين جدرانه فصلاً جديداً من حكاية الوطن. فمن هنا بدأت الحكاية قبل عقود، وهنا تستمر، ما دام في الإمارات من يكتب قصيدتها بالأمل والعمل والانتماء.

كان القصر، بنوافذه المفتوحة على ظلال الماضي ونور الحاضر، يهمس بأن المجد الذي وُلد في هذه الواحة، سيظل يكبر، ما دام أبناء الإمارات يؤمنون بأن الوطن قصيدةٌ كبرى، تُكتَب بحروفٍ من نورٍ ومجدٍ وسؤدد.