في الرابع والعشرين من نوفمبر سنة 2017 رحل عن دنيانا الشاعر السعودي الفذ «إبراهيم خفاجي»، متأثراً بأمراض القلب والقولون والقرحة والنزيف الداخلي وضيق التنفس التي استلزمت إدخاله غرفة العناية المركزة بمدينة الملك عبد الله الطبية في مكة المكرمة.
لقد تكالبت عليه أمراض الشيخوخة فعانى من الوهن والضعف وصعوبة التحرك لمدة طويلة، انتهت برحيله عن عمر ناهز 91 عاماً، ودفنه بمقبرة المعلاة بعد الصلاة عليه في المسجد الحرام، لتطوى بذلك صفحة شاعر نال من التقدير والمحبة والعرفان ما لم ينله غيره من مجايليه، وحظي من الألقاب ما لم يحظ به سواه، ورحل تاركاً خلفه إرثاً فنياً تردده الأجيال المتعاقبة، وأعمالاً وطنية شاهدة على تسعة عقود عاصرها، وأكثر من 600 نص من أنجح النصوص الشعرية الغنائية.
وفي الذكرى السابعة لفقده، حريّ بنا أن نعيد التذكير به وبمآثره من خلال هذه المادة التوثيقية لحياته الحافلة بالإبداع المقترن بحب الوطن وخدمته والتغني بأمجاده شعراً ونثراً.
يتذكره طلبة المدارس، في طول وعرض البلاد السعودية، كل صباح وهم يقفون في طابور الصباح لأداء تحية العلم وترديد النشيد الوطني، فهو الذي انكب لمدة ستة أشهر على كتابة نص يلائم ويتوافق مع لحن السلام الوطني للمملكة، والذي وضعه الموسيقار طارق عبد الحكيم، فخرج علينا بنشيد «سارعي للمجد والعليا/مجدي لخالق السماء/وارفعي الخفاق أخضر/يحمل النور المسطر/رددي الله أكبر/ يا موطني/ موطني، عشت فخر المسلمين/عاش الملك للعلم والوطن».
وبالمثل يتذكره كل السعوديين ويترحمون عليه صباحاً ومساء كل يوم، وهم يستمعون لنشيد بلادهم الوطني وقت افتتاح وإغلاق البثين الإذاعي والتلفزيوني. ولهذا لقب بـ «شاعر الوطن».
أما عشاق وهواة الطرب والغناء، فلا ينسون إسهاماته المشهودة في تطوير الأغنية السعودية من خلال تزويد روادها بأحلى الكلمات والقصائد التي كان يستمدها من الفلكلور الشعبي السعودي ويطعمها بالمفردة الحجازية الدارجة الجميلة على طريقة ثريا قابل وصالح جلال، ولهذا أطلق عليه لقب آخر هو «جواهرجي الأغنية السعودية».
ولأنه قدم، من خلال موهبته الشعرية، نحو 600 قصيدة غنائية تغنى بها فنانون سعوديون كبار من أمثال محمد عبده وطلال مداح وطارق عبد الحكيم وعبد الله محمد وفوزي محسون وعبادي الجوهر وجميل محمود وعلي عبد الكريم وعبد المجيد عبد الله وابتسام لطفي، ولأنه أسهم في انتشار الغناء السعودي على المستوى العربي، من خلال تقديم بعض قصائده لمطربين ومطربات عرب مثل علي عبد الستار (أغنية خليجية وزين ربعك)، ومحمد قنديل (أغنية يا حمام الحرم)، وكارم محمود (أغنية مكتوب علينا)، وهيام يونس (أغنية يا مسلمين بالعيون)، وصباح (أغنية البعد والحرمان)، وسميرة توفيق (أغنية أشقر وشعره ذهب)، فقد أطلق عليه أيضاً لقب «أستاذ شعراء الأغنية السعودية».
من جهة أخرى حاز لقب «شاعر نادي الهلال»، بسبب عشقه لنادي الهلال السعودي ومساهمته في تأسيسه من خلال شغله منصب نائب رئيس النادي في سنواته الأولى، فهو صاحب بيت الشعر الشهير في عالم الرياضة:
إذا لعب الهلال فخبروني.. فإن الفن منبعهُ الهلال
امتع ناظري بهلال نجدٍ.. فمن قمصانه خلق الكمال
وهو أيضاً من عتب على النادي، خلال ظهوره في برنامج «وينك» لأن الهلاليين لم يكرموه، قبل أن يستدرك ويقول: «لكن بطولاتهم تكريم لي».
لكل هذا وغيره، لم يكن غريباً أن تسود حالة من الصدمة والذهول في مواقع التواصل الاجتماعي، بعد انتشار خبر رحيله. ولم يكن مستغرباً أن يتبارى العديد من محبيه ورفاقه في نعيه والتذكير بإسهاماته. وكان فنان العرب محمد عبده في مقدمة هؤلاء، حيث كتب في حسابه الرسمي على مواقع التواصل الاجتماعي: «أنعى إليكم أستاذي وموجهي وصانع أروع إبداعاتي الأستاذ الشاعر إبراهيم عبد الرحمن خفاجي رائد القصيدة والأغنية في العالم العربي. بفقده خسرت الساحة الفنية عمودها الفني التي ترتكز عليه جميع أقلام الكتاب والمبدعين في العالم العربي. يرحمه الله رحمة واسعة، ويرحمنا إذا صرنا إلى ما صار إليه». ويذكر أن صداقة ربطت عبده بخفاجي منذ ستينات القرن العشرين، وتعاون الطرفان في إطلاق 24 عملاً فنياً أشهرها: مثل صبيا، ما في داعي، لنا الله، أشوفك كل يوم، أنت محبوبي، مالي ومال الناس، ومن العايدين ومن الفائزين، يا حبيبي آنستنا، يا أهل الهوى، يا مضيعين الود، لا تناظرني بعين، الود طبعي، هيا معي، كوكب الأرض، لو سمحت المعذرة، لو كلفتني المحبة، ظبي الجنوب، من فتونك والدلال، أوقد النار، يا منيتي، ناعس الجفن، نجمي ونجمك، ودع اليأس.
ولد إبراهيم بن عبد الرحمن بن حسين خفاجي في مكة المكرمة في عام 1929، ونشأ وترعرع فيها بحي «سوق الليل» الشعبي، لأسرة أدبية علمية ثقافية تنحدر من قبيلة «خفاجة» العربية العدنانية القيسية. ودرس في «مدرسة الفلاح» الشهيرة بمكة، ومدرسة دار العلوم الدينية، وأمضى بعض الوقت يتلقى دروساً في الحرم المكي كمعظم مجايليه، ثم التحق بمدرسة اللاسلكي وتخرج منها في عام 1945 مأموراً لاسلكياً، وتنقل بسبب مهنته بين مدن وقرى المملكة، إلى أن عاد إلى مكة ليشغل فيها وظيفة بقسم الأخبار بالنيابة العامة. وفي عام 1954 انتقل إلى قسم الاستماع بالإذاعة السعودية، ثم انتقل للعمل بوزارة الصحة، حيث شغل وظيفة بقسم المحاسبة، ثم ترقى وصار رئيساً للقسم فوكيلاً للإدارة المالية. أتاحت له وظيفته الأخيرة فرصة الابتعاث إلى مصر، فالتحق هناك بمعهد الإدارة في القاهرة الذي منحه دبلوماً في إدارة الأعمال والإدارة المالية. وحينما عاد من مصر شغل منصب مدير الإدارة المالية بوزارة الزراعة لشؤون المياه بالرياض، قبل أن يعود إلى مسقط رأسه في مكة ويتولى منصب المفتش المركزي لوزارة الزراعة والمياه في المنطقة الغربية. وبعد 25 عاماً من العمل الحكومي، طلب خفاجي التقاعد فاستجيب لطلبه في أواخر السبعينات الميلادية.
من المهام التي تقلدها بعد ذلك: قيادة جمعية الفنون بمنطقة مكة، كأول رئيس لها، ورئاسة اللجنة المشرفة على إعداد الموسوعة الصوتية للتراث السعودي. غير أن المهمة الأصعب التي كلف بها كانت كتابة النشيد الوطني للمملكة. ولهذا التكليف قصة رواها خفاجي بنفسه في أكثر من حوار مع وسائل الإعلام، ومفادها أن الملك خالد بن عبد العزيز كان في زيارة إلى مصر، وحينما صعد مع مضيفه الرئيس أنور السادات إلى المنصة الرئيسية، وعزف السلامان الوطنيان السعودي والمصري، لاحظ الملك أن السلام الوطني السعودي مجرد موسيقى لا يصاحبها نشيد، على العكس من السلام الوطني المصري، وتبين له أن ذلك معمول به منذ عهد والده الملك المؤسس، طيب الله ثراه، فأصدر أمراً إلى وزير الإعلام آنذاك الدكتور محمد عبده يماني بضرورة أن يكون للمملكة نشيد وطني يصاحب موسيقى السلام الملكي. هنا سارع يماني إلى الاتصال بشعراء الوطن البارزين، طالباً منهم تحقيق رغبة الملك بشرط أن يكون النص ملائماً للحن الموجود منذ عام 1945. وقتها اقترح الأمير الشاعر عبد الله الفيصل أن توكل المهمة للشاعر المكي إبراهيم خفاجي الذي كان وقتذاك يقضي إجازته في القاهرة، فراحت السفارة السعودية تبحث عنه إلى أن اهتدت إلى عنوانه، لتشريفه بتلك المهمة الوطنية التي قبلها الشاعر بفخر واعتزاز. وأثناء انكبابه على كتابة النص المطلوب، شاءت الأقدار أن ينتقل الملك خالد إلى جوار ربه، لكن الملك فهد أبلغه بضرورة الاستمرار في العمل شرط أن يكون النص خالياً من اسم الملك ومتقيداً بالعادات والتقاليد. وبعد ستة أشهر، ولد النص المطلوب، وسلمه خفاجي إلى وزير الإعلام الجديد علي الشاعر، الذي عرضه بدوره على الملك فهد، فأعجب الملك بالنشيد وأجازه، لينتقل إلى يد الموسيقار السعودي سراج عمر الذي تم تكليفه بعملية تركيب النص على موسيقى السلام الملكي، وتوزيعه من جديد. هذا علماً بأن أول بث للسلام الملكي السعودي مصاحباً لنشيد «سارعي للمجد والعلياء» كان في ختام البث التلفزيوني والإذاعي ليوم 30 يونيو 1984.
ظهرت موهبة خفاجي الشعرية مبكراً، حيث تأثر بوالده الشاعر وسار على دربه في كتابة القصائد ذات المضامين المرتبطة بالبيئة السعودية أو تلك المرتبطة بالحب والجمال والفنون، بأسلوب سهل عذب. وكان أول نص غنائي كتبه هو «يا ناعس الطرف لبيه» في سنة 1944، والذي غناه الموسيقار طارق عبد الحكيم من ألحانه في عام 1945، ثم جدده محمد عبده فيما بعد. وظل مذاك يكتب وينشر قصائده الغنائية ويتعاون مع عمالقة الغناء والطرب في بلاده. فعدا عن محمد عبده الذي استأثر بنصيب الأسد من قصائد خفاجي، كتب الأخير لصوت الأرض الفنان طلال مداح كلمات أغان مثل: الشكوى لله، شاءت الأقدار يا قلبي، اجمعوا بالقرب شملي، كنا في طريق الحب ماشيين، تصدق ولا أحلفلك، مرّ بي، كانك ما انت عارفني، على شانه، كيف أنساك، تعداني وما سلم، تتجاهل تكلمني. وكتب لعبادي الجوهر كلمات أغان مثل: ليه يا قلبي، الحل، ليت حبي، وداع، يا ليتكم معنا، هذي رسالة. كما تعاون مع صديقه الأقدم الموسيقار طارق عبد الحكيم في أربع أغان هي «يا ناعس الطرف لبيه»، و«يا لابس الإحرام»، و«لنا الله» و«البعد والحرمان»، بينما غنى جميل محمود من كلماته أغنية يتيمة هي: «زي بعضه»، وفوزي محسنون أغنية يتيمة أيضاً هي: «يا حبيبي آنستنا». وكذا الحال كان مع صديق عمره الآخر الفنان الراحل عبد الله محمد الذي غنى من كلماته وألحان طارق عبد الحكيم أغنية «لنا الله». أما الفنان علي عبد الكريم فقد غنى من كلمات خفاجي ثلاث أغنيات (تسلم تروح، وطني مهد العروبة، صدفة حلوة) والشيء نفسه ينطبق على عبد المجيد عبد الله الذي غنى من كلمات خفاجي ثلاث أغنيات (يا قمر ساير، سيد أهلي، الحب لسه شباب).
وبسبب ظروفه الصحية ابتعد عن الساحة، وكان أوبريت «عرايس المملكة»، الذي قدمه سنة 1996م خلال مهرجان الجنادرية الحادي عشر، هو آخر عمل كتبه وأبدع فيه بالوصف عرائس البلاد الخمس وهن مناطق المملكة الأربع ووسطها، حيث كتب بتفاصيل (ما كان لغيره أن يجيدها) بسبب إلمامه بالموروث السعودي وجغرافية الوطن من أقصاه إلى أقصاه. هذا علما بأن الأوبريت من ألحان محمد عبده، وشارك الأخير في أدائه كل من طلال مداح وعبد المجيد عبد الله وراشد الماجد الذين أنشدوا: «عرايس المملكة خمس، يحبوا النفس والنظرات سحرية.. أوانس غيد، طوال الجيد واللفتات درية.. شرقية وغربية، جنوبية شمالية ونجدية».
حصل خفاجي نظير إبداعاته على ميدالية الاستحقاق من الدرجة الأولى من خادم الحرمين الشريفين الراحل الملك فهد بن عبد العزيز في عام 1984م، تقديراً لمجهوده في تأليف النشيد الوطني السعودي، ومنحه الملك عبد الله بن عبد العزيز في عام 2012م وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى، وفي العام نفسه نال جائزة الدولة التقديرية في الأدب، وكرمته جامعة أم القرى بمكة في عام 1996 تقديراً لجهده في تأليف أوبريت «عرايس المملكة». كما كرمته جمعية الثقافة والفنون بجدة في عام 1999 لعطاءاته المتميزة في عالم الأغنية السعودية، وحصل في أواخر السبعينات الميلادية من هيئة الإذاعة البريطانية على جائزة أفضل أغنية ظهرت آنذاك عن أغنية «أشقر وشعره ذهب». إلى ما سبق، تمّ تكريمه من قبل إثنينية عبد المقصود خوجة بجدة سنة 2005، ومن قبل نادي مكة الأدبي سنة 2010، وأطلقت إدارة التعليم بمكة في عام 2018 اسمه على مدرسة ابتدائية للبنين في حي العتيبية تخليداً لذكراه.
الذين عرفوه عن كثب أو تعاونوا معه أجمعوا على أن خفاجي كان مدرسة شعرية قائمة بذاتها، وحافظاً للإرث الغنائي المكي، وأنه كان صاحب أياد بيضاء على الساحة الفنية، وداعماً قوياً للمواهب الشابة، ومالكاً لحس وذوق فني رفيع، ومشاركاً دائما في الأمسيات الفنية، ولا سيما أمسيات الفنان المخضرم جميل محمود. كما أخبرونا في تصريحاتهم أنه كان متواضعاً بسيطاً في حياته وحديثه، يكره الأضواء، ولا يتقاضى أجراً أو مكافأة عن نصوصه الغنائية من الفنانين المتعاونين معه.
