انتهت جلسة مجلس الأمن، في السابع عشر من نوفمبر الجاري، بالموافقة على مشروع القرار 2803 الداعم لخطة الرئيس الأمريكي ترامب بشأن غزة.

جرى ذلك بهدوء وبدون أن تحدث المفاجأة التي تصور البعض وقوعها، باستخدام الفيتو من جانب المندوب الروسي أو الصيني أو كليهما معاً. كان جل ما فعله المندوبان أن طويا مقترحيهما المختلفين نسبياً، والتزما موقف الامتناع عن التصويت خلافاً لبقية الأعضاء.

قد يكون هذا السلوك، الأميل إلى الاعتراض السلبي، مدعاة للاعتقاد بأن موسكو وبكين لم تمضيا بعيداً في معاكسة إرادة واشنطن، وهذا صحيح بصفة عامة.. بيد أن التقدير الموضوعي لهذه الخطوة يقتضي الأخذ بعين الاعتبار أنها، أولاً:

تمثل استمرارية للمسار الذي غلف السياستين الروسية والصينية مؤخراً، لا سيما خلال سنتي الحرب على غزة، وقوامه عدم مناكفة طلاقة اليد الأمريكية في الشؤون الشرق أوسطية وفي القلب منها المسألة الفلسطينية، وهي ثانياً:

تتسق مع المواقف الإيجابية للقوى العربية والإسلامية، بل وللسلطة الفلسطينية، الأكثر انغماساً وانشغالاً بمصير غزة، تجاه المقترح الأمريكي إجمالاً.

وأهم من ذلك ثالثاً: أن الدبلوماسية الأمريكية، ورغبة منها على الأرجح في عدم استفزاز أصحاب الفيتو، ولا إغضاب الشركاء العرب والمسلمين، اضطرت لإجراء تعديلات في مشروعها، زبدتها ما نص عليه البند الثاني من أنه «بعد تنفيذ برنامج إصلاح السلطة الفلسطينية، وإحراز تقدم في إعادة التنمية في غزة، قد تتوافر الظروف لمسار موثوق يتيح للفلسطينيين تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية».

هذه الفقرة تكاد تكون «كلمة السر» في استقبال المشروع الأمريكي، على غموضه وعلاته الكثيرة، بالأريحية التي اتسمت بها ردود أفعال الغالبية العظمى من الأطراف المعنية المنحازة، بدرجة أو أخرى، للحقوق الفلسطينية..

إذ لا شيء يدغدغ عواطف هؤلاء مثل الاقتراب من تحقيق أو تجسيد هدف الدولة من هذه الحقوق، فكيف إذا جاء النص على هذا الهدف في قرار أممي عن مجلس الأمن صاغته الولايات المتحدة ؟!.

والحق أنه إذا كانت كل الحراكات الموصولة بتسوية الصراع على أرض فلسطين معنية في التحليل الأخير، حقيقة لا ادعاءً أو مراءاة، بإقرار السلم والأمن الإقليمي والدولي، فإننا نجادل بأن استظلال الشعب الفلسطيني بدولة مستقلة؛ عضو في الأمم المتحدة تحت طائلة الشرعية الدولية العامة وما تم الاعتراف به لهذا الشعب من حقوق تفصيلية، هو بالفعل الباب الكبير لهذا الإقرار.

نتحدث هنا عن قناعة تكاد تكون فوق تاريخية، عابرة لأي لحظة، يبدو فيها المناخ العام للقضية الفلسطينية غائماً، وربما كان مواتياً نسبياً لأعداء هذه القضية، على غرار اللحظة الراهنة.

بل ونذهب في هذا المقام إلى طموح أوسع، حين نحاجج بأن المشاركين لاحقاً فيما يدعى بـ«مجلس السلام» طبقاً لقرار مجلس الأمن، وفي طليعتهم الولايات المتحدة، لن يعثروا على وصفة سحرية المفعول؛ يعلنون بها عن وجودهم ويؤكدون بها هيبتهم وقدسية أهدافهم وحسن نواياهم في هذه المرحلة، أفضل من السعي الجاد «لتعميد» فلسطين الدولة كاملة الأركان بداية، ثم السعي حثيثاً لتحريرها من ربقة الاستعمار الإسرائيلي الممتد تالياً.

على مدار قرن وزيادة، قاسى الشعب الفلسطيني عذابات تكفي لأن يكون الأحرص على لملمة شعثه ومداواة جراحه وتصفيف أطره ومؤسساته، والتعجيل بممارسة حياة خالية من العنف، واستدراك ما فاته في سنوات الصراع واللجوء والضياع.

وتشير أسس قيام هذه الدولة، وفقاً لخطاب منظمة التحرير الفلسطينية إلى نوازعها السلمية منذ البداية، فالحركة الوطنية الفلسطينية، بكل أطيافها طرقت أبواب القوانين والمواثيق الدولية، وهى تعلن جهرة تخليها عن العنف والالتزام بأقل من نصف ما أقرته لها الشرعية الدولية من أرض في قرار التقسيم الشهير عام 1947.

علاوة على دورها في إرضاء الجانب الأهم من الطموحات الوطنية للفلسطينيين، وتسكين ثائرتهم وغضبهم التاريخي وإزالة صفة البجعة السوداء عنهم بين شعوب الدنيا، ستكون الدولة الفلسطينية محطة فارقة في تهدئة خواطر العرب والمسلمين والقوى المحبة للسلام.

والعاطفين على عالم القانون والنظام في الجهات الأربع، ثم إنه بانبعاث هذه الدولة، تزول إلى حد التلاشي أو الأفول بعض من أنشط بواعث التشاحن والجفاء والتطرف بين الدائرة العربية الإسلامية من جهة وعالم الغرب على جانبي الأطلسي من جهة أخرى.

ففي سيرة القضية الفلسطينية منذ بزوغها إلى يومنا هذا، ما ساق الفلسطينيين ومن خلفهم قطاعات واسعة من هذه الدائرة إلى الحنق - حتى لا نقول الحقد - على الغرب، بحسبه المسؤول الأول عن جناية إنشاء إسرائيل وما ألحقه بفلسطين وجوارها الإقليمي من ظلامات ظاهرة وباطنة.