كان جالساً في غرفة الانتظار بالمستشفى للمرة الرابعة خلال أسابيع، بعد سلسلة فحوصات تبحث عن تفسير لتغيّر خفيّ ومربك في جسده: أعراض غريبة لا تؤلم بقدر ما تُقلق. شيء ما يتبدّل في الحركة، في الصوت، في الشعور. حتى وقت قريب، كان إنساناً آخر: منطلقاً، يملأ يومه بالحيوية، يتحدث عن المستقبل كما لو كان يراه. ثم بدأ هذا الشيء يقلب الطمأنينة إلى تساؤلات ثقيلة.

جلس متظاهراً بالانشغال، يتصفح هاتفه ليس بحثاً عن جديد، بل هروباً من التفكير، وبين المنشورات وقعت عيناه على آية واحدة: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ قرأها وأعادها، ثم أنزل الهاتف بهدوء وتأملها. شعر أن الكَبَد لم يعد كلمة بل واقعاً، وليس مشقة عابرة بل لبّ الوجود الإنساني. أدرك أن كل إنسان يجرّ خلفه أوجاعاً خفية، وأن الحياة ليست كما تبدو في ظاهرها.

وقبل أن يكتمل تأمله، سمع والداً يطلب من موظف الاستقبال تسريع فحوصات ابنته قائلاً بصوتٍ منكسر: «هي صغيرة لا تحتمل الانتظار». التفت نحو الفتاة، كانت في عمر الزهور بوجه باهت ونظرة خافتة كأنها تودّ ألا تثقل على أحد. نظر إليها وانكسر قلبه دون كلام، كأن وجعها انسكب عليه وسكنه ونسي ما جاء لأجله، وصغُر همه في عينيه.

هكذا تُربّينا الحياة أحياناً بلحظة، حين نرى في مصاب غيرنا مرآة لنعيد ترتيب أولوياتنا، حين ندرك أن الكَبَد مشترك وإن اختلفت تفاصيله، فليس في الحياة أحد بمنأى عن البلاء ولا في الطريق أحد يعبر دون جهد أو ألم.

بعض الألم يُرسل لا ليؤلم بل ليوقظ ويعلّم؛ وليس المبتلى وحده المعنيّ به، بل من حوله أيضاً، ليُختبر فيهم الصبر والرحمة وصدق الاحتواء، لأن في وجع أحدنا امتحاناً لإنسانيتنا جميعاً. ما نحسبه في الحياة قسوة أحياناً قد يكون باباً للخير وإن لم نره إلا بعد حين، والرضا ليس أن تقبل بما يأتيك بل أن تؤمن أنه لم يأتِ عبثاً، والصبر ليس مجرد احتمال بل حسن ظن وأنت تتألم.

وهكذا، لم يكن جلوسه في المستشفى نهاية لشيء بل بداية لفهم أعمق: أن قوله تعالى ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ ليس وصفاً للمشقة فحسب، بل تذكير بأن في العناء حكمة ربانية وفي الألم رحمة منه خفية.