حيث أبدع في قياس مستوى هذا الانسجام، من خلال سؤالٍ ذكيٍّ كان يتوجّه به كثيراً إلى الوافدين المقيمين على ثرى الإمارات منذ فتراتٍ طويلة، تتراوح بين الثلاثين والأربعين من السنين، وكانت الإجابة في أغلب الأحيان تعبيراً عن عمق الراحة الّتي يشعر بها المغترب، ويُعبِّرُ عنها بكلّ اعتزازٍ، حين يقول: «أشعر بالراحة، وكأنّي في بلدي».
ورجع بها إلى جذورها العميقة في ثقافة هذا البلد الأصيل، ورأى فيها علامة عافيةٍ حضاريّة وسلامةٍ اجتماعيّة، يجب على الجميع المحافظة عليها، فضلاً عن تنميتها وتطويرها، كي ترتقي إلى منزلة النموذج المُحتذى، وهو ما عبّر عنه صاحب السموّ في تعليقه على تلك الإجابة الصادرة من أناس وجدوا في الإمارات ملاذاً لهم، مارسوا فيه حياةً رائعة، جعلتهم يشعرون أنّهم في وطنهم، وهي حالة شعوريّة مخالفة للسائدِ المعروفِ بين النّاس من الشعور القاسي بوطأة الغربة.
فما كان من صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد، إلا أن عبّر عن شعوره العميق بقيمة هذا الجواب، حين قال: «ما أعظم هذه الإجابة، وما أجملها! لأنّ البشر عندما يسافرون لبلدانٍ أخرى، فإنّ الإحساس الطبيعيّ هو إحساسٌ بالغربة»، وقد فسّر صاحب السموّ هذا الإحساس الفطريّ بالشعور بالغربة، بقوله:
«الطبيعيّ أن تحسّ بالغربة، لأنّها بلدٌ غير بلدك، وثقافة غير ثقافتك، ووطن غير وطنك، ولكنّ الإجابة المذهلة أنّهم يشعرون وكأنّها بلادهم»، ليسجّل صاحب السموّ شعوره من هذه الحالة الفريدة، بقوله تعقيباً على ذلك: «ما أعظم هذا البلد الذي لا تحسّ فيه بالغربة، وما أجمله!».
«نعم، نحن كأفراد شعبٌ مسالم، منسجمٌ، متصالحٌ مع ذاته، متصالحٌ مع كلّ مكوّناته، وهذا ليس جديداً»، ليرجع صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد بالذاكرة إلى مئة وعشرين عاماً، حين زار مستكشفٌ ألمانيٌّ أرض الإمارات، ووقف أمام قصر الحصن، والتقط الصورة الوحيدة للشيخ زايد الأوّل، رحمه الله، ويُعلِّقُ ذلك المستكشف على تلك الحالة قائلاً: «لا يُسألُ الضّيفُ عن اسمه أو دينه، بل يُقدَّمُ له القهوة والمكان، قبل أن يُسأل عن حاجته».
«الإمارات هي تجسيدٌ لفكرة الانسجام، قبل أن تكون تجسيداً لفكرة الاتحاد»، ليشرع بعد ذلك في سرد هذه المظاهر الرائعة، الّتي كانت سبباً وراء هذه الحالة الحضاريّة، بقوله:
«انسجامٌ بين الإمارات المتصالحة والقبائل المختلفة، أدّى لوحدةٍ ناجحة ومستمرّة ومزدهرة، لأنّ القلوب كانت صافية ومخلصة، وصفاء القلوب تجاه الناس، أصل كلّ خير وتوفيق»، ويُواصلُ صاحب السموّ الحديث عن حقيقة الانسجام بقوله:
«الانسجام الداخلي وصفاء النية، كانا أساساً للنمو والتطور، وبدآ يكبران ليُشكِّلا انسجاماً مع مُحيطها الإقليميّ، وانسجاماً في علاقاتها الدوليّة»، وتوضيحاً لهذه النقطة الأخيرة، يؤكِّدُ صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد، على أنّ «الإمارات اليوم تمثّل انسجاماً في علاقاتها بين الشرق والغرب، ليس فقط سياسيّاً، بل انسجاماً يُوازنُ بين إبداع الغرب وتقدّمه التقنيّ، وبين روح الشّرق وعمقه الثقافيّ والقيميّ».
وملحوظٌ ما في هذه الكلمات من العُمق في التحليل، وأنّ الانسجام يتجاوز الشكل الخارجيّ للعلاقات، لينفذ إلى باطن القيم الثقافيّة والحضاريّة، بحيث يلتقي الإبداع الحديث الّذي يضخّه الغرب في الحياة، مع الأصالة الثقافية والروحيّة الّتي يتميّز بها الشرق، عبر تاريخه الحضاريّ الطويل.
كما يراه في العلاقة بين المصلحة الاقتصاديّة الداخليّة، وبين الانفتاح على الأسواق العالميّة، ليكون ذلك تعبيراً عن قوّة الحضور والرغبة في الإفادة من جميع الفرص المتاحة، كما يرصده في الانسجام بين الدين الإسلامي السمح الحنيف، وبين سائر الأديان، حين تنهض العلاقة على الوعي بالخصوصيّة الذاتيّة، التي تمنع من الذوبان في الآخر.
وتحفظ لكلّ طرفٍ دينه ومعتقده، من خلال شعورٍ عميقٍ بالاختلاف والتنوّع، الذي هو سنّةٌ كونيّةٌ من سنن الله في خلقه، {ولا يزالون مختلفين ولذلك خلقهم}، وهو الشيء الذي يُقال عن الانسجام بين الثقافة ذات الجذور الشرقيّة، بكلّ ما تعنيه من أصالةٍ ذاتيّة، وبين احتضانها للثقافات العالميّة، احتراماً لفكرة التنوّع، وسعياً وراء التكامل الذي لا يلغي الخصوصية.
لذلك يُحسّ كلّ قادم بهذه الروح الطيّبة المتصالحة، الّتي تسري في المجتمع، ويُحسّ كلّ وافدٍ لهذه الأرض، بأنّها أرضه ووطنه وبلده، لأنّ روح الإنسان تنزع إلى السّلام والانسجام والتعاون»، وبكلّ صدق، لا أجدُ كلاماً يمكن به التعقيب والتوضيح لهذا الكلام الثمين، الذي فسّر به صاحب السموّ هذه الحالة الاجتماعية النادرة لمجتمع الإمارات الأصيل.