اقتنيت مؤخراً من معرض الشارقة الدولي للكتاب رواية «حمار الحكيم» لتوفيق الحكيم، ذلك الكتاب الأيقوني المهم الذي يوقظ في كل جيل سؤالاً جديداً، ويذكر القارئ بأن الأدب ليس ترفاً لغوياً، بل وسيلة لاختبار الوعي.
كنت قد قرأته أول مرة وأنا طالبة في المرحلة الثانوية، وها أنا أعود إليه ليس بدافع الحنين فحسب، بل بدافع الفضول الفكري، ولأتأكد أن الأسئلة القديمة ما زالت حاضرة، وأن الإنسان مهما تبدل زمنه وأدواته لا يزال يبحث عن معنى وجوده بالطريقة ذاتها.
حين أعدت قراءة النص الذي كُتب في أربعينيات القرن الماضي أدركت أن الحمار في القصة لم يكن شخصية ثانوية أو نكتة سردية، بل جوهر التجربة كلها، فالحكيم لم يكتب عن الحيوان، بل عن الإنسان حين يغرق نفسه في التفكير حتى يفقد فطرته الأولى، إذ عكست الرواية رؤية الكاتب في جعل الحمار مرآة للعقل المرهق بالمنطق، وكائناً يواجه تعقيد الإنسان بفطرته البسيطة، وفي هذا التناقض تتجلى براعة الحكيم الذي استخدم الرمز ليقول إن المعرفة لا تكتمل إلا حين نتصالح مع البساطة!
كتب الحكيم روايته في حقبة فكرية كانت فيها مصر والعالم العربي يعيشان قلق الهوية وحدود الحداثة، فجاء الحمار ليكشف التناقض بين الفكر والممارسة، فبينما كانت النخب تنشغل بالتنظير كان الحمار يرى الواقع كما هو، دون وسائط ولا تزييف.
وفي صمته النقدي إدانة مبطنة لعقل يفر من الحياة إلى اللغة، ولإنسان يتكلم باسم الحقيقة دون أن يجربها، وبهذا المعنى كان «حمار الحكيم» تمريناً مبكراً على النقد الذاتي، إذ جعل الإنسان يرى نفسه في مرآة المخلوق الذي ظن أنه أدنى منه!
ومع مرور عقود من الزمن، تغير شكل العالم، لكن معضلة الفهم ظلت كما هي، إذ ازدادت المعرفة اتساعاً لكنها فقدت عمقها الإنساني، وتضاعفت المنصات وتكاثرت الأصوات، فتحول الفكر إلى أداء سريع، والمعرفة إلى استهلاك متواصل.
ويكفي أن نتأمل كيف تدار نقاشات الرأي في فضاءات التواصل الاجتماعي لندرك حجم المفارقة، فبينما تتيح لنا المنصات أدوات مبتكرة للوصول إلى المعرفة نرى الخطاب العام يتراجع إلى سطحية غير مسبوقة، إذ يتحول الحوار إلى ردود سريعة، والمعلومة إلى رأي متشنج، وتغيب القدرة على التمييز بين المعرفة والتحشيد، وبين الفهم والانفعال!
في هذا المشهد - وبعد قراءتين للرواية بينهما سنوات من الوعي والتأمل - أرى أن البحث عن «حمار الحكيم» هو بحث عن معيار سليم للحُكم، فالمشكلة اليوم ليست في الوصول إلى الحقيقة، بل في صياغة ميزان داخلي يفرق بين ما يُرى وما يعتد به.
فالعقل الرشيد لا يكتفي بالتفسير، بل يمر بثلاث عمليات تتمثل في تصفية ما يزاحم الانتباه، ووزن الحجج بمعيار أخلاقي ومعرفي، ثم وصل النتائج بسلوك له تبعات، وهنا يشتغل رمز الحمار كـ«كابح للزهو»، إذ يذكرنا أن أول شرط للحكمة هو خفض الانبهار بالأدوات كي نستعيد صلاحية التقدير.
فالإشكال الأكبر اليوم هو غياب معايير القرار: ماذا نقدم وماذا نؤخر؟ وما الذي يستحق الإصغاء لأن له أثراً في الواقع؟ ومن هذا السؤال الأخير بدأتُ أرى أن عودتي إلى رواية «حمار الحكيم» لم تكن استجابة لحالة «نوستالجيا» ثقافية، بل رغبة في التنقيب عن حالة فكرية نادرة نفتقدها جميعاً، عن تلك الطمأنينة التي يولّدها الفهم البسيط، والقدرة على النظر إلى العالم دون تعقيد ممنهج أو انبهار زائف.
فالحمار هنا رمز لوعي فطري صادق فقده الإنسان الحديث، وتذكير بأن الحكمة لا تقاس بالمكانة أو بالأدوات، بل بصفاء النظرة إلى الأشياء كما هي، بصورتها الأولى.
وكلما ازدادت رفوفنا امتلاء بالكتب، ازدادت حاجتنا إلى إدراك أن المعرفة لا تبدأ بالقراءة وحدها، بل بتأمل ما نقرأ برؤية وصبر، وبأن التفكير فعل إنساني قبل أن يكون مهارة تقنية، تماماً كما فعل «حمار الحكيم» حين أعاد تعريف الذكاء بوصفه إصغاءً لا استعراضاً!