لم يعد مفهوم المدن الذكية تعبيراً عن طفرة تقنية أو رقمية فحسب، بل أصبح رؤية فلسفية جديدة لإعادة فهم معنى المدينة ذاتها: كيف تفكر، وكيف تتفاعل، وكيف تُعيد تشكيل علاقتها بالإنسان. فالذكاء هنا لا يقاس بكم البيانات ولا بتطور الأنظمة، بل بقدرة المدينة على أن تكون كياناً حياً يحتضن المعرفة، ويولّد الابتكار، ويمنح الإنسان فضاءً للارتقاء والإبداع.

لقد عبّر سمو الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم، ولي عهد دبي، نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير الدفاع، رئيس المجلس التنفيذي لإمارة دبي، عن هذا التوجه بوضوح حين قال:

«إن رؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، أرست دعائم مدينة المستقبل القائمة على الإنسان والمعرفة والابتكار، وهو ما نلمسه اليوم في المنجزات التي حققتها دبي على صعيد التخطيط الحضري، واستدامة الموارد، وتهيئة بنية تحتية رقمية وخدمية تجعلها من بين أكثر المدن استعداداً للمستقبل».

تصريح سموه جاء خلال افتتاح قمة مدن آسيا والمحيط الهادئ 2025 ومنتدى رؤساء البلديات، التي استضافتها دبي مؤخراً، بمشاركة أكثر من 150 رئيس بلدية، والمئات من قادة المدن من 350 مدينة حول العالم؛ بهدف النهوض بمستقبل التنمية الحضرية المستدامة والشاملة.

هذه القمة الكبرى التي تجمع صُنّاع القرار ورؤساء البلديات وقادة الأعمال والمؤسسات الحضرية، تعد منصة دولية لتبادل الرؤى حول الإسكان الميسور، وحلول النقل الذكية، والمدن القائمة على البيانات والاستدامة البيئية، ما يجعل من دبي مركزاً محورياً للحوار العالمي حول مستقبل المدن الذكية.

في سياق التفكير بمستقبل المدن وتحولاتها الكبرى، تبرز الرؤية التي قدمها سمو الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم، والتي تناولتها سابقاً في مقال منشور في صحيفة «البيان» بعنوان «مدن المستقبل..

المبادئ الرئيسة والتحولات الضابطة»، وهو المقال الذي تضمن المبادئ السبعة لمدن المستقبل التي كان سموه قد حددها ضمن القمة العالمية للحكومات عام 2019، حين خاطب المشاركين عبر تكنولوجيا «الهولوغرام» قائلاً:

«على مر التاريخ كانت المدن المحرك الأساسي لتطور البشرية ونشر المعرفة وجذب أبرز المواهب والعقول، سواء كانت في روما أو غرناطة أو بغداد في عصر بيت الحكمة، الدول هي مجموعة من المدن، ونجاح الدول يقاس بنجاح مدن تتنافس على المستوى العالمي في اقتصاداتها وجذبها للمواهب وجودة الحياة فيها».

وقد شملت تلك المبادئ السبعة: (التحول الجذري في تصميم المدن، وطريقة التنقل، وطريقة العيش، واستغلال الموارد، ومفهوم تنافسية المدن، واقتصادات المدن، والحوكمة)، والتي تشكل الإطار الفكري الذي تستند إليه الرؤية الإماراتية في تطوير مدن المستقبل.

من هذا المنظور، فإن التصميم الذكي للمدن ليس مجرد توظيف للتكنولوجيا، بل منهج فلسفي في التفكير الحضري، يجعل الإنسان محور التنمية لا مجرد متلقٍ لخدماتها، ويعتبر المعرفة بنية تحتية موازية للبنية المادية، والابتكار وسيلة للبقاء والتفوق المستمر. بهذا المعنى، يصبح الذكاء الحضري نتاج تفاعل ثلاثي بين وعي الإنسان، وتدفق المعرفة، وفاعلية الابتكار، وهي منظومة تتجاوز البعد التقني لتؤسس لرؤية أخلاقية وثقافية في إدارة العمران البشري.

إن تجربة دبي تمثل تحولاً من المدينة بوصفها مجرد مكان للسكن والعمل، إلى المدينة بوصفها بيئة للتعلم والإبداع والإنتاج المعرفي. فهي مدينة تفكر وتتعلم وتتطور باستمرار، وتحول البيانات إلى قرارات، والمعرفة إلى سياسات، والابتكار إلى ممارسة مؤسسية يومية.

ختاماً نقول.. المدن التي تراهن على الإنسان والمعرفة والابتكار لا تتفاعل مع المستقبل بوصفه حالة مجهولة، بل تصنعه بوعيها واستبصارها، وتجتهد في رسم ملامحه قبل أن يصبح واقعاً. فحين يصبح الإنسان مركز التصميم، والمعرفة لغة السياسات، والابتكار أداة التنفيذ، تتشكل بإذن الله تعالى هوية حضرية جديدة قادرة على تجاوز التقلبات، وصياغة غدٍ أكثر استدامة وإنسانية.