«السياسة فنّ الممكن، لا فنّ المستحيل». (أوتو فون بسمارك).

في زحمة المشهد السياسي العالمي الراهن، تتبدل التحالفات، كما تتبدل الفصول، وتغدو اللغة السياسية أقرب إلى مرآة تعكس مصالح متحركة، أكثر مما تعكس مبادئ ثابتة. يتقدم السؤال الأزلي في واجهة المشهد: هل تُبنى العلاقات بين الدول على ثبات المبدأ، أم على مرونة المصلحة؟ أم أن الحكمة تكمن في إيجاد صيغة لا يطغى فيها أحدهما على الآخر؟.

تبدو البراغماتية اليوم سيدة الموقف، فلسفة تنظر إلى الفعل من زاوية الجدوى والواقعية لا النوايا، وترى أن الخطأ الأكبر هو الجمود على ما لم يعد مجدياً. أما المثالية فتقف في الجهة المقابلة، مؤمنة بأن التنازل عن القيمة هو انكسار في الوعي، قبل أن يكون خسارة في الميدان. وبين صرامة الواقعية ورهافة المثالية، تمتد مساحة دقيقة، لا يسكنها إلا العقل السياسي الواعي، ذاك الذي يدرك أن المصلحة بلا أخلاق عبث مؤقت، وأن الأخلاق من دون واقعية، نوايا حسنة لا تُثمر فعلاً.

إن المشهد العالمي اليوم، يكشف أن البراغماتية أصبحت اللغة الجديدة للمصالح، وأن موازين القوة لا تقاس بالتحالفات، بقدر ما تقاس بالقدرة على التكيّف. لم يعد في السياسة صديق دائم ولا خصم أبدي، بل معادلات تتبدل بإيقاع محسوب، تتقدم حين تقتضيها المصلحة، وتتراجع حين يفرض الواقع حدوده، في انسجام دقيق مع منطق الزمن والقدرة. ومع ذلك، فإن البراغماتية ليست نقيضاً للأخلاق، بل وجه الحكمة في عالم متداخل، تتقاطع فيه المصالح، وتتعقد فيه القرارات، فالحكم على المواقف السياسية بمنظار المثالية المفرطة ليس فضيلة، بل مراهقة عاطفية، تجهل من دهاليز السياسة أكثر مما ترى في سطحها.

إن الواقعية في السياسة ليست انحرافاً عن القيم، بل إدراك أن حفظ المبدأ أحياناً يمر عبر طرق ملتوية الظاهر، مستقيمة الهدف، وأن فهم القرار لا يكتمل من العناوين، بل من قراءة المشهد بما خفي لا بما ظهر. فالواقعية لا تعني التخلي عن القيم، بل وعي يميز بين الثابت والمتحول، وبين ما يحفظ وما يراجع. وعندما تختلط الاتجاهات وسط ضبابية المواقف، يدرك العاقل أن البراغماتية ليست انسحاباً من المبدأ، بل سعيٌ لحمايته بوعي وحكمة، لأن السياسة ليست حرباً على القيم، بل محاولة دائمة لتثبيتها، وسط عواصف التحولات ورياح المصلحة العابرة.

بين المبدأ الذي يُلهم، والمصلحة التي تُلزم، تمضي السياسة على خيط رفيع من الحكمة، حيث لا ينتصر المبدأ وحده، ولا تكفي الواقعية دون ضمير.