شاركت خلال الأيام الماضية في جلستين حواريتين حول المقال الإماراتي. كانت الأولى في مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية بدبي وبتنظيم من المؤسسة، والثانية في «مردف سيتي سنتر» بتنظيم من إدارة المكتبات العامة في هيئة دبي للثقافة والفنون.

المقال، هذا الفنّ الذي يُولد من رحم اللحظة، ويتغذّى على اليوميّ من الأحداث، والعميق من الأفكار، ليُعبّر عن رأي أو فكرة أو موقف يراه الكاتب جديراً بالتأمل، يطرح البعض اليوم حوله سؤالاً يقول: هل يخلّد المقال كاتبه، أم أنّه كلامٌ يُقرأ ثم يُطوى في أدراج النسيان؟

يذهب فريق إلى أن المقال لا يملك عُمق الخلود الذي تملكه الرواية أو القصيدة أو الكتاب. فالمقال، في نظرهم، ابنُ وقته، مرتبطٌ بحدث أو مناسبة، ما إن ينقضيا حتى يفقد المقال وهجه. يقرأه الناس في الصحف والمواقع الإلكترونية، ثم ينتقلون إلى غيره في اليوم التالي.

يرى هذا الفريق أن المقال يشبه ومضة البرق؛ يضيء لحظة، لكنه لا يغيّر شكل السماء، وأن الكاتب مهما كانت فصاحته أو قوّة فكرته، سيجد نفسه بعد أيام قليلة خارج دائرة الاهتمام. فالإعلام سريع الإيقاع، لا ينتظر من يتأمل، بل يطلب الجديد دائماً.

ثمة فريق ثان يرى في المقال فناً قائماً بذاته، لا يقل أهمية عن أيّ نوع أدبيّ آخر. فالمقال، وإن وُلد من رحم اللحظة، إلا أنه حين يُكتب بصدق وعمق وفكر مستنير، يتجاوز زمانه ومكانه.

ويسأل أعضاء هذا الفريق: كم من مقالٍ قرأناه بعد سنوات طويلة من كتابته فوجدناه كأنه كُتب اليوم؟ وكم من كاتب خلدته مقالاته أكثر مما خلدته كتبه؟ نعود إلى مقالات العقاد وطه حسين والمنفلوطي وأحمد بهاء الدين، فنجد فيها نبض الحياة، وسعة الفكر، وجمال اللغة، كأنهم يكتبون من زمننا.

مقالات هؤلاء جزء من ذاكرة الأمة الثقافية. المقال إذاً هو الذي نقل إلينا فكر جيل كامل من النهضويين والمفكرين العرب.

الخلود لا يرتبط بشكل النص، بل بروحه. فالمقال الذي يُكتب بعمق التجربة وصدق الموقف، يعيش كما تعيش الكلمة الصادقة في وجدان الناس. أما المقال السطحيّ فلا يخلّد كاتبه، حتى لو تصدّر الصفحات الأولى.

ربما يكون المقال قد تحول إلى مساحة ضيّقة وسط الزخم الإعلامي وموجات التواصل الاجتماعي في عصرنا هذا، لكنّ هذه المساحة لا تزال تحتفظ بجاذبيتها لمن يُتقن فنّ الكتابة فيها.

فالمقال الجيّد يختصر ما تفصّله الكتب، ويقرّب ما يُبعِده التنظير، ويضع الفكرة في قالب إنسانيّ يجعل القارئ يرى نفسه فيها، ثم إن المقال ليس نصاً عابراً، بل شهادةً على زمن وأفكار ومواقف.

عندما نقرأ اليوم مقالات الستينيات أو السبعينيات من القرن الماضي، نكتشف ملامح مرحلة كاملة من التاريخ الاجتماعي والسياسي والفكري.

إنها وثائق مكتوبة، تحفظ ذاكرة الشعوب مثلما تحفظ الصحف أرشيفها. ولعل هذا ما يجعل المقال فنّاً ذا قيمة مزدوجة؛ آنية في تأثيرها، لكنها تاريخية في معناها.

المقال، في جوهره، موقف من الحياة. والكلمة الصادقة لا تموت، لأنها تسكن ضمير القارئ.

الخلود الحقيقي في أن تبقى الرسالة حيّة. المقال لا يخلّد كاتبه إذا كان مجرد رأي عابر في شأن عابر، لكنه يخلّده عندما يكون نافذةً يطلّ منها الناس على فكر ناضج، أو ضمير حيّ أو كلمة تنحاز للإنسان والحق والجمال.

وما أكثر الكتّاب الذين عاشوا بيننا وتركوا آثارهم، لا في الكتب، بل في مقالات صارت جزءاً من ضمير الأمة، تُتداول وتُدرّس ويُستشَهد بها بعد عقود من كتابتها.

من الذي يستطيع أن يقول مثلاً إن الملايين لم تكن تنتظر مقال محمد حسنين هيكل «بصراحة» في جريدة «الأهرام» المصرية كل أسبوع خلال فترة المد القومي العربي؟ من يستطيع أن يقول إن هذه المقالات، التي كتبها هيكل على مدى 17 عاماً، سواء اتفقنا معه أو اختلفنا، لم تعد مرجعاً أساسيّاً لمن يريد أن يدرس مرحلة مهمة من تاريخ الأمة العربية؟

المقال يبقى من أكثر الفنون قدرة على ملامسة الإنسان، ومن أصدقها تعبيراً عن نبض الحياة. وإذا كان الشعر ديوان العرب، فإن المقال هو مرآة عقولهم وضمائرهم.

الكاتب الذي يكتب بضمير حيّ لا يخشى النسيان، لأن كلمته تجد طريقها إلى الخلود عاجلاً أو آجلاً.