وتُرسّخ في القلب. فما إن انتهت المراسم الرسمية، حتى بادرني وزير شؤون «إكسبو 2025»، بابتسامة ودّية قائلاً: «نأمل أن تؤكد دولة الإمارات مشاركتها في أقرب وقت».
كانت تلك الكلمات البسيطة، في ظاهرها، بمثابة الشرارة الأولى لانطلاقة فصل جديد من العطاء والتعاون، تمثّل في تكليفي بمهام المفوض العام لجناح دولة الإمارات في «إكسبو 2025 أوساكا»، وهي مسؤولية أعتز بها، وأحملها بكل فخر، لما تنطوي عليه من رمزية ودور استراتيجي في نقل قصة الإمارات إلى العالم، بلغة تتجاوز الكلمات، وتخاطب الحواس.
بل تحوّلت إلى محطات لصياغة طموحات، وكل خطة إلى وعد نحمله أمام العالم، وكل نقاش إلى حجر أساس في بناء سردية وطنية مشرّفة. وحين افتُتحت أبواب الجناح، لم يكن ذلك مجرد حدث رسمي، بل لحظة فارقة، اختزلت شهوراً من المثابرة، وأحلاماً تتجاوز الأفق.
وعلى امتداد ستة أشهر، أصبح جناح دولة الإمارات العنوان الأبرز والأكثر تميزاً في «إكسبو 2025 أوساكا»، مُستقطباً أكثر من خمسة ملايين زائر إجمالياً، ليُتوَّج الجناح الوطني الأكثر جذباً للزوار في هذا المحفل العالمي.
وكنت على يقين بمكانة دولتنا في قلوب اليابانيين، غير أن ما شهدته خلال افتتاح جناح دولة الإمارات في «إكسبو 2025 أوساكا»، فاق كل التوقعات، وترك أثراً بالغاً في نفسي.
فمنذ اللحظات الأولى، تحوّل الجناح إلى مساحة تفاعلية نابضة بالحياة، اجتمع فيها الزوّار من مختلف الأعمار والاهتمامات — من عائلات وطلبة ومهتمين — يتنقّلون بين محطاته بشغف وفضول، يتأملون قصة الإمارات، ويتعرّفون إلى ملامح رؤيتها وإنجازاتها، ويتفاعلون مع رسالتها الإنسانية.
واليوم، بعد 55 عاماً، يعود بعض من زاروا ذلك الجناح الأول – وكانوا آنذاك طلاب مدارس – ليطؤوا أرض جناح دولة الإمارات في «إكسبو 2025 أوساكا»، وقد بدت الدهشة مرسومة على وجوههم، وهم يلمسون حجم التحوّل، وعمق المنجز، واتساع الرؤية.
لقد كانت مشاهدتهم وهم يُعيدون اكتشاف حكايتنا لحظة غامرة بالمشاعر، حين التقت ذاكرة الماضي بحيوية الحاضر، واختزل المشهد حواراً صامتاً بين جيلين اجتمعا في مكان واحد، حول قصة وطن صنع مستقبله بالإرادة والعمل.
لقد عبّروا عن وطنهم بثلاث لغات – العربية، والإنجليزية، واليابانية – ونجحوا في إيصال رسائل الدولة بأسمى صورها، لكن لغتهم الأبلغ كانت إنسانيتهم، وتعاطفهم، واحترامهم العميق للآخر.
وفي أعين آلاف الزوّار، لم يكن هؤلاء الشباب مجرد ممثلين لجناح وطني، بل مرآة لهوية إماراتية راسخة في صمودها، منفتحة في روحها، وطموحة في رؤيتها نحو مستقبل أكثر إشراقاً.
في حين جسّدت منطقة «محفّزو الرعاية الصحية»، التزامنا العميق بصحة الإنسان ورفاهيته، وأبرزت منطقة «أمناء الاستدامة» مسؤوليتنا الجماعية تجاه كوكبنا ومستقبل أجيالنا.
أما منطقة «إرث منسوج»، فكانت مساحة تفاعلية، اكتشف فيها الزوّار كيف يتداخل التراث الأصيل والحداثة، لتتشكّل ملامح الهوية الإماراتية المعاصرة. ومن خلال هذا التناسق، عبّرت مناطق الجناح عن رسالته الجوهرية المتمثلة في: تقدّمٌ يستمد جذوره من التراث، وينطلق بثقة نحو المستقبل، مدفوعاً بقوة الابتكار.
إذ نجح مطعم الجناح في استقطاب الزوّار، ليس فقط بنكهات أطباقه الأصيلة، بل بما حمله من دفء الضيافة، وروح البيت الإماراتي. ومع كل صباح، كانت طوابير الزوّار تمتد أمام أبوابه قبل ساعات من الافتتاح، تعبيراً عن شغف حقيقي لتذوّق نكهات إماراتية، ربما لم يسبق لكثيرين منهم تجربتها من قبل.
وسرعان ما تحوّلت هذه التجربة إلى لحظة مشتركة من الاكتشاف والبهجة. عندها، بدا جلياً أن الضيافة الإماراتية، بكل بساطتها وصدقها، تظلّ من أبلغ رسائلنا إلى العالم.
ويزداد قوة بانفتاحه، ويستشرف المستقبل بعقلية جامعة ورؤية استباقية. ورغم تنوّع البرنامج اليومي وتجدّده، بقيت الرسالة الرئيسة ثابتة لا تتغير: لحظات تربط بين الشعوب بما يجمعهم من قيم إنسانية مشتركة، تتجاوز الحدود وتُقرّب المسافات.
يرسلون صوراً ومقتطفات من تغطيات إعلامية ومنشورات على منصات التواصل، يعبّرون فيها عن فخرهم، واهتمامهم، وانغماسهم العاطفي في تفاصيل رحلتنا، وكأنهم يعيشونها معنا، لحظة بلحظة، رغم آلاف الكيلومترات التي تفصلنا.
ومع كل رسالة، كنت أستشعر عمق الرابط الذي يجمعنا. لقد أدركت أننا لا نروي قصة الإمارات وحدنا، بل نعيشها جميعاً، نحن هناك وهم هنا، مترابطين بقلب واحد، وروح وطنية واحدة، تتجاوز المسافات، وتعمّق الإحساس بالانتماء.
فرغم إغلاق الجناح أبوابه رسمياً، ظل الزوّار واقفين عند مدخله، ليعبّروا عن امتنانهم. لقد صفقوا بحرارة لفريق العمل وهو يغادر للمرة الأخيرة، وعبّروا له عن مشاعرهم بكلمات ونظرات يصعب وصفها. كانت لحظة تجلّت فيها أسمى معاني التقدير والاحترام والتواصل الإنساني العابر للثقافات.
وفي تلك الليلة، بدا الطريق القصير إلى مكان إقامتي، وكأنه أطول رحلة قطعتها، محمّلة بثقل الشعور بأننا لا نودّع مكاناً فحسب، بل نودّع تجربة شكلت جزءاً من ذواتنا، وكأننا نترك خلفنا قطعة من القلب.
كانت التجربة شهادة حيّة على إيمان الإمارات العميق بأن التفاهم الإنساني، والحوار الصادق بين الثقافات، ليسا ترفاً دبلوماسياً، بل ضرورة حضارية، ومسار لا غنى عنه لصياغة غدٍ أكثر إشراقاً وعدالة للإنسانية جمعاء.
ولشعب اليابان، على كرمهم ودفء مشاعرهم التي لامست أعماق القلوب. ولكل زائرٍ خطى داخل جناحنا، وتفاعل مع رسالتنا، وترك فينا أثراً لا يُنسى، سيبقى محفوراً في الذاكرة بكل فخر.
وانطلاقاً من شعار «من الأرض إلى الأثير»، تمضي حكاية الإمارات بثبات... بلغة التفاهم والتعاطف، وبإيمان راسخ أن المستقبل لا يُبنى بالانغلاق، بل بالانفتاح، لا بالحواجز، بل بالروابط التي تعمّق إنسانيتنا وتوحّد مصيرنا.