ابتذال الخطاب السياسي وتدني مفرداته بات واقعاً أمريكياً، له أسبابه التي تشكل واحدة من تجليات أزمة اجتماعية وسياسية تعيشها الولايات المتحدة منذ عقدين على الأقل، فمن يتابع السياسة الأمريكية عن كثب عبر فترة ممتدة لا بد أن يلحظ أن تحولاً حقيقياً طرأ على لغة الخطاب ومفرداته، فقد بات الابتذال السياسي معتاداً، وغدت لغة الخطاب حافلة بمفردات قبيحة أو تنطوي على عنف مفرط، فالأسابيع القليلة الماضية وحدها حفلت بوقائع عدة، كان أبطالها رموزاً سياسية في أعلى المناصب أتت بأفعال أو لغة قبيحة تصل أحياناً إلى حد البذاءة، فعلى سبيل المثال حين سأل صحفي المتحدثة باسم البيت الأبيض عمن وراء اختيار مدينة بودابست موقعاً لاجتماع قمة مزمعة بين ترامب وبوتين إذا بها تجيب: «أمك من اختارتها»، وهي الإجابة التي كررها مسؤول رفيع آخر بالبيت الأبيض للإجابة عن السؤال ذاته! وحين خرج الملايين للشوارع احتجاجاً على سياسات الإدارة أطلق رئيس مجلس النواب على الاحتجاجات اسم «احتجاجات الكارهين لأمريكا»، أما الرئيس ترامب فقد وضع على حسابه الشخصي على وسائل التواصل فيديو مصنوعاً بالذكاء الاصطناعي يقود فيه طائرة فوق تلك الاحتجاجات، ويقصف المحتجين بقنابل تبدو وكأنها من الصرف الصحي.
وبعض المعلقين بأمريكا يربطون تلك الظاهرة بترامب، لكن ليس صحيحاً أنها بدأت مع وصول ترامب للرئاسة، كل ما في الأمر أنه منحها المزيد من الزخم، فباتت هي القاعدة لا الاستثناء، كما أنه ليس صحيحاً أن تلك الظاهرة تقتصر على الولايات المتحدة، وإنما هي أكثر وضوحاً في أمريكا لأن طبيعة الثقافة السياسية الأمريكية أقل ميلاً بكثير لاعتماد الرسميات، بل إن اللغة الإنجليزية في نسختها الأمريكية تعتبر أقل تلك النسخ رسمية والتزاماً بقواعد اللغة، لكن كل ذلك لم يكن يمنع السياسيين الأمريكيين في أزمنة سابقة من استخدام لغة رصينة، ويخاطبون بعضهم بقدر من الاحترام، بل حتى في المواقف التي تستدعي الحماس الزائد، كالتنافس الانتخابي كان المرشحون يلتزمون في انتقاد خصومهم بالحد الأدنى لا يتعدونه.
بعبارة أخرى ظل هناك خط فاصل بين عدم رسمية الخطاب السياسي وبين الابتذال، إذ حرص السياسيون في العلن، على الأقل، على تجنب الظهور بمظهر السوقية، فعلى سبيل المثال حين قال ديك تشيني، نائب الرئيس الأسبق، كلمة نابية للسناتور باتريك ليهي دون أن يدرك أن الميكروفون ينقلها في العلن، صارت الواقعة حدثاً لأنها كانت الاستثناء، أما اليوم فقد صار معتاداً أن يستخدم السياسيون تلك المفردة ذاتها في خطابهم العلني!
ولهذا التحول، في تقديري، أسباب عدة لعل أهمها الاستقطاب السياسي الحاد والتحولات الاجتماعية والسياسية، فضلاً عن صعود الشعبوية اليمينية، فمنذ تسعينيات القرن العشرين صار الاستقطاب السياسي يتجه في شكل خط بياني صاعد، والاستقطاب بطبيعته يحوّل الخصوم السياسيين لأعداء، وتتلاشى معه المساحات الرمادية، التي يمكن فيها التوافق للتوصل لحلول وسط، وإغلاق الحكومة الفيدرالية أبوابها هو أحد تجليات الاستقطاب، فهو يتكرر بمعدلات أعلى بكثير بالمقارنة بعقود مضت، وفي كل مرة تطول مدته عن ذي قبل، ما يفاقم نتائجه الاقتصادية والمعيشية، لكن الاستقطاب السياسي يصبح أخطر بكثير إذا ما امتد لشرائح المجتمع، وهو بالضبط ما حدث بأمريكا، فقد صار الاستقطاب سياسياً واجتماعياً في الوقت ذاته، وحين يمتد الاستقطاب للمجتمع نفسه تعيش كتلتا الاستقطاب في عالمين متوازيين لكل منهما ما يعتبره «الحقيقة»، وأن ما دونها زائف، ويشعر كل طرف بأن الآخر يهدد قيمه ووجوده أصلاً، خصوصاً مع تدهور الأوضاع الاقتصادية.
وتلك الظواهر كلها تمثل تربة خصبة لنمو اليمين الشعبوي، الذي يقتات أصلاً على دغدعة المشاعر، لا على تقديم حلول واقعية للمشكلات، فهو يستثمر في الخوف من الآخر، وتنمية مشاعر الغضب تجاهه، ولأنها مواجهة لا بد أن تنتهي بانتصار حاسم لأحد الطرفين وهزيمة الآخر يصبح طبيعياً، القبول بكسر كل القيود، بما فيها الأطر التقليدية للسياسة ومفرداتها، ويغدو ما هو صواب وما هو أخلاقي يتوقف على الفاعل لا الفعل ذاته، وكل ذلك يسمح بالقطع بقبول الابتذال إذا ما جاء من المعسكر نفسه، لأنه في كل مرة يتصور الأنصار أن تلك ستكون الضربة القاضية!