لم يفاجئني اعتراف صاحب الحساب الذي حاول أن يُحدث فتنة بين الشعبين الإماراتي والسوداني، بعد أحداث مدينة الفاشر، بأنه ليس إماراتياً، رغم أنه كان يرتدي الزي الإماراتي ويتحدث اللهجة الإماراتية، فأنا والكثيرون غيري نعرف أن أغلب أصحاب الحسابات التي تحاول إثارة الفتن بين الشعوب العربية مزيفون ومدفوعون إلى ذلك لأسباب عقائدية، أو مدفوع لهم لإشعال نيران الفتنة.

ما فاجأني هو اعتذار صاحب الحساب للشعبين الإماراتي والسوداني وإحساسه بالذنب لما أقدم عليه، وهو ما لم نجده لدى الكثيرين.

ربما كان الدافع إلى هذا الاعتذار هو انقطاع المصلحة أو صحوة الضمير فعلاً، لكن الاعتراف يكشف ما يجري في هذه الوسائط من تزييف وتزوير يُحدِث تأثيراً سلبياً، الأمر الذي يدعونا إلى عدم الانسياق وراء كل ما يقال وينشر والتأثر به، أو بناء مواقفنا على ما يصدر من بعض الأفراد والجماعات.

العلاقة بين الشعبين الإماراتي والسوداني ضاربة في العمق، قبل قيام دولة الإمارات العربية المتحدة وبعد قيامها، فقد كانت السودان أول دولة عربية يقوم المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، بزيارتها رسمياً بعد شهرين ونصف فقط من توليه رئاسة الدولة، حيث كانت الزيارة في 20 فبراير 1972م.

وبعد شهرين فقط من تلك الزيارة قام الرئيس السوداني الأسبق، جعفر النميري، بزيارة دولة الإمارات، وكانت زيارته تلك بتاريخ 23 أبريل 1972م، ليكون أول رئيس دولة عربية، من خارج منطقة الخليج، يزور دولة الإمارات بعد قيامها.

هاتان الزيارتان كانت لهما آثار كبيرة على العلاقات الإماراتية السودانية التي تأسست قبل هذا التاريخ بسنوات.

إذ وفدت إلى الإمارات، قبل الاتحاد، شخصيات سودانية أسهمت في تأسيس الدوائر المحلية، ووظفت خبرتها في خدمة الإمارات التي كانت تنهض في ستينيات القرن الماضي.

ففي عام 1961 استقطب المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، الأستاذ كمال حمزة أبوالمعالي، ليتولى إدارة بلدية دبي، التي بقي مديراً لها حتى عام 1985م، لينتقل بعدها مستشاراً لحكومة دبي حتى تقاعده عام 1992م.

كما كانت هناك أسماء أخرى أسهمت في مجالات مختلفة، نذكر منهم على سبيل المثال الدكتور علي شمو، أول وكيل لوزارة الإعلام في دولة الإمارات، والأستاذ صالح فرح، المستشار القانوني لإمارة أبوظبي وأحد الفقهاء المشاركين في كتابة دستور الإمارات، والمهندس السني بانقا، أول رئيس لبلدية أبوظبي، وغيرهم من الأطباء والمهندسين والقضاة والمحامين والعسكريين والصحفيين والمدربين واللاعبين السودانيين الذين يحمل لهم أبناء الإمارات مشاعر الوفاء والحب والاحترام والتقدير.

على الجانب الآخر لم تتوانَ دولة الإمارات منذ قيامها عن الوقوف إلى جانب السودان الشقيق في مختلف الظروف، دعماً لمشروعاته التنموية والإنسانية.

من المساعدات الطبية إلى بناء المستشفيات والمدارس وحفر الآبار، كانت أيادي الإمارات تمتد إلى أرض النيلين كلما احتاجت.

ولم يكن ذلك تفضلاً أو منة، بل ترجمة لسياسة راسخة قام بإرسائها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وقادة الإمارات الذين يرون في مساعدة الأشقاء واجباً أخوياً قبل أن تكون قراراً سياسياً.

لقد مرت العقود، وتبدلت الأجيال، لكن روح الأخوة الإماراتية السودانية بقيت كما هي، راسخة لا تهزها رياح المواقف العارضة ولا محاولات التشويش.

واليوم، ونحن نرى بعض الأصوات النشاز تحاول دق إسفين بين الشعبين الشقيقين، ندرك أن هذه المحاولات لا تعبر إلا عن أصحابها، ولا تنجح إلا إذا استسلمنا لها، وهو ما لن يحدث.

إن العلاقات بين الدول تقاس بمتانة الروابط بين شعوبها، لا بعدد الاتفاقيات أو اللقاءات الرسمية.

وما يجمع الإمارات والسودان يتجاوز السياسة إلى الإنسان ذاته، إلى الكلمة الطيبة، والموقف النبيل، والتاريخ المشترك.

تلك القيم التي لا يمكن أن تمحوها تغريدة هنا، ولا أن تشوهها إشاعة هناك.

إن الشعوب الواعية لا تسمح لأحد بأن يعبث بذاكرتها أو يزرع الشك في قلوبها. والإمارات، التي قامت على التسامح والانفتاح واحترام الآخر، تدرك أن بناء الجسور يحتاج إلى وقت وجهد وإيمان.

ولذلك فإن مسؤوليتنا اليوم، كإعلاميين ومثقفين ومواطنين، أن نحمي هذه الجسور من العبث، وأن نرد بالكلمة الصادقة على كل محاولة للإساءة.