وفي رحاب هذه الرحلة سنكتشف الارتباط الجذري الوثيق لذلك المكون الإبداعي العربي التاريخي الرائد، بمضامين المعارف والعلوم في عالمنا العصري، بتأثير وفعل النشاط النوعي الرائد للعرب في ميادين الترجمة، والتي وفرت قدرتهم على استيعاب علوم معارف الشعوب.
فالبناء عليها وتقديم خدمة لا تضاهى للبشرية. وخير شاهد وبرهان في الصدد، ما شهدته الحضارة العربية والإسلامية في عصرها الذهبي، تحديداً ما بين القرنين الثامن والثالث عشر للميلاد، إذ ترجم علماء بيت الحكمة في بغداد كنوز الفلسفة والطب والفلك والأدب، من اليونانية والفارسية والسنسكريتية والسريانية، إلى اللغة العربية، ومن ثم نُقلت، لاحقاً، الترجمات المهمة، إلى اللغة اللاتينية، الأمر الذي كان جذوة وشرارة عصر التنوير في أوروبا.
وهنا لا مفر من الحرص على إثراء حراك الترجمة في الاتجاهين، أي من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية، والعكس صحيح. وربما أن هذه المسألة غدت ملحة في وقتنا الحالي، كوننا نجد أن عدد الكتب العربية التي تُترجم إلى لغات أخرى، ولا سيما الإنجليزية التي أصبحت اللغة الأساسية في ميادين النشر والمعرفة والعلوم.
لا يزال ضئيلاً مقارنة بحجم الترجمات من اللغات الأخرى إلى العربية. وأظن أنه قد آن الأوان كي نتخذ خطوات جدية، جريئة ومؤثرة، في هذا الاتجاه، تفي بغرض قلب تلك المعادلة والوصول إلى الهدف المروم.
وأعتقد أن هذا التوجه سيكون مفيداً للعرب والشعوب الأخرى في عالمنا، معاً، لأنه سيضمن توفير نتاجات أدبية بانورامية الطابع، تعكس طيف الثقافات الإنسانية برمتها، وهو ما لمّحت إليه، مرة، الكاتبة النيجيرية تشيماماندا نيجوزي أديتشي، حين حذرت من «خطر القصة الواحدة».
ومن المؤكد أن نشاطنا الجاد والنوعي في هذا الاتجاه، سيكون خطوة أساسية، بل محورية وملهمة، في مسارات ومبادرات إغناء المكتبة العالمية بقيم ومضامين التعدد والثراء، خاصة وأن السرد العربي بآفاقه وألوانه الشائقة، يحمل مجاميع فرائد وتفاصيل وصوراً وقصصاً، مسكونة بظلال من الفرح والحزن.. والعمق الإنساني.
ولكن هذا لا يعني مطلقاً، أنه يجدر بنا أن نسلّم بهذا الواقع ونرتضي بهيئته المنطوية على الاحتكار الواضح. فأية نوايا ورغبات، وخطط حتى، لجعل الحضارة الإنسانية، بلا استثناء لأي من مكوناتها، تستفيد من هذه الابتكارات.
لن نستطيع تجسيدها وتثميرها بشكل خلاق، في حال بقيت الترجمة وممارساتها قاصرة عن التعريف بغنى النتاجات الأدبية في الثقافات الأخرى، ومن بينها العربية، وذلك من خلال المبادرة في هذا الاتجاه في الخطوة الأولى. وثانياً، عبر تجويد فعل الترجمة وإحكام قدرة المترجم على إيصال الطبقات النفسية والثقافية والعاطفية في النص.
وفي لاغوس، أن يتعرّفوا على شخصيات محفوظ، ويتخيلوا أنهم يسيرون في أزقة القاهرة من خلال رواياته الممتعة (مثل: «بين القصرين» و«زقاق المدق»). وقد قال محفوظ ذات مرة: «لو لم أحصل على جائزة نوبل، لما تُرجِمت كتبي على الأرجح».
بل يمتلك حسّاً أدبياً يُمكّنه من نقل روح النص إلى لغة جديدة دون أن يُفقده نبضه. إن المهارة في الترجمة الأدبية تتجاوز القواعد والأساليب. فهي أشبه بعزفٍ منفرد يتحول المترجم في فضاءاته إلى مؤدٍ بارع يترجم الإحساس والإيقاع والدلالات والثقافة، وليس الكلمات فقط.
ولهذا تبقى الترجمة الأدبية حرفة إنسانية خالصة. فالجيدة منها لهي أشبه بعرض مسرحي، يكون فيه المترجم ممثلاً ومفسّراً في آنٍ واحد، ينقل صوت المؤلف الأصلي بلغة جديدة. وكما قال أمبيرتو إيكو: «الترجمة فن الفشل».
إضافة إلى مبادرات مركز أبوظبي للغة العربية، التي تفتح نوافذ جديدة مؤثرة في المجال. كذلك أسهمت «الجائزة العالمية للرواية العربية» في تسليط الضوء على أصوات جديدة.
ومن بينها رواية «ساق البامبو» للكاتب الكويتي سعود السنعوسي، التي تُعدّ من الأعمال التي تجاوزت الحدود بلغتها ورسالتها ونجاح ترجمتها، خير دليل على براعة ناقلها وروحها العالمية.