جواهر ثرّة لا متناهية، فريدة في قيمتها، تتحفنا وتوقد الشغف في دواخلنا، ونحن نتعمق في استجلاء كوامن خزائن الإرث الفكري الذي خلّفه العرب.

وفي رحاب هذه الرحلة سنكتشف الارتباط الجذري الوثيق لذلك المكون الإبداعي العربي التاريخي الرائد، بمضامين المعارف والعلوم في عالمنا العصري، بتأثير وفعل النشاط النوعي الرائد للعرب في ميادين الترجمة، والتي وفرت قدرتهم على استيعاب علوم معارف الشعوب.

فالبناء عليها وتقديم خدمة لا تضاهى للبشرية. وخير شاهد وبرهان في الصدد، ما شهدته الحضارة العربية والإسلامية في عصرها الذهبي، تحديداً ما بين القرنين الثامن والثالث عشر للميلاد، إذ ترجم علماء بيت الحكمة في بغداد كنوز الفلسفة والطب والفلك والأدب، من اليونانية والفارسية والسنسكريتية والسريانية، إلى اللغة العربية، ومن ثم نُقلت، لاحقاً، الترجمات المهمة، إلى اللغة اللاتينية، الأمر الذي كان جذوة وشرارة عصر التنوير في أوروبا.

إن تلك الحقائق التاريخية المهمة، تؤكد لنا أن الترجمة في عمقها، ليست مجرّد جسر لغوي، وإنما فعل حضاري وممارسة ثقافية راقية تُجسّد تبادل المعرفة وتكامل الخيال الإنساني، كما أنها، أيضاً، من بين أثمن الهدايا التي يمكن أن تقدمها أمة إلى أخرى.

ولا شك أن هذه الأهمية الرفيعة المنزلة للترجمة، تحتّم علينا أن نوليها العناية والاهتمام اللذين تستحقانهما، بالمطلق، فلا نستهين بأدوارها أو نسمح بأن تُغيّب قيمة حضور لآلئ سيولها المعرفية، أية عوامل ومعيقات في عصرنا الحديث.

وهنا لا مفر من الحرص على إثراء حراك الترجمة في الاتجاهين، أي من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية، والعكس صحيح. وربما أن هذه المسألة غدت ملحة في وقتنا الحالي، كوننا نجد أن عدد الكتب العربية التي تُترجم إلى لغات أخرى، ولا سيما الإنجليزية التي أصبحت اللغة الأساسية في ميادين النشر والمعرفة والعلوم.

لا يزال ضئيلاً مقارنة بحجم الترجمات من اللغات الأخرى إلى العربية. وأظن أنه قد آن الأوان كي نتخذ خطوات جدية، جريئة ومؤثرة، في هذا الاتجاه، تفي بغرض قلب تلك المعادلة والوصول إلى الهدف المروم.

إننا بأمس الحاجة اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، إلى أن نُقدّم مزيد القصص العربية إلى القرّاء من حول العالم، خصوصاً الصادرة منها ضمن منطقة الخليج العربي، والتي تنطوي على ملامح أدبية وتجريبية سردية أخاذة تحفل بقيم الخير والجمال والعدل.

وأعتقد أن هذا التوجه سيكون مفيداً للعرب والشعوب الأخرى في عالمنا، معاً، لأنه سيضمن توفير نتاجات أدبية بانورامية الطابع، تعكس طيف الثقافات الإنسانية برمتها، وهو ما لمّحت إليه، مرة، الكاتبة النيجيرية تشيماماندا نيجوزي أديتشي، حين حذرت من «خطر القصة الواحدة».

ومن المؤكد أن نشاطنا الجاد والنوعي في هذا الاتجاه، سيكون خطوة أساسية، بل محورية وملهمة، في مسارات ومبادرات إغناء المكتبة العالمية بقيم ومضامين التعدد والثراء، خاصة وأن السرد العربي بآفاقه وألوانه الشائقة، يحمل مجاميع فرائد وتفاصيل وصوراً وقصصاً، مسكونة بظلال من الفرح والحزن.. والعمق الإنساني.

إن اللغة الإنجليزية تهيمن، في واقعنا الحالي، على سوق النشر، سواءً في النسخ المطبوعة أو الكتب الصوتية أو الإلكترونية. كما أنها تسيطر، نوعاً ما، على النسبة الغالبة من مضامين الحكايات المتدفقة عبر المنصات الصوتية والمرئية التي تمثل أساليب جديدة في حقول السرد.

ولكن هذا لا يعني مطلقاً، أنه يجدر بنا أن نسلّم بهذا الواقع ونرتضي بهيئته المنطوية على الاحتكار الواضح. فأية نوايا ورغبات، وخطط حتى، لجعل الحضارة الإنسانية، بلا استثناء لأي من مكوناتها، تستفيد من هذه الابتكارات.

لن نستطيع تجسيدها وتثميرها بشكل خلاق، في حال بقيت الترجمة وممارساتها قاصرة عن التعريف بغنى النتاجات الأدبية في الثقافات الأخرى، ومن بينها العربية، وذلك من خلال المبادرة في هذا الاتجاه في الخطوة الأولى. وثانياً، عبر تجويد فعل الترجمة وإحكام قدرة المترجم على إيصال الطبقات النفسية والثقافية والعاطفية في النص.

وأود أن أذكر هنا، أنه عندما فاز الراحل نجيب محفوظ بجائزة نوبل للأدب عام 1988، لم يكن ذاك الإنجاز انتصاراً للأدب المصري أو العربي فحسب، بل كان احتفاءً بالترجمة نفسها. إذ بات بإمكان القرّاء في لندن.

وفي لاغوس، أن يتعرّفوا على شخصيات محفوظ، ويتخيلوا أنهم يسيرون في أزقة القاهرة من خلال رواياته الممتعة (مثل: «بين القصرين» و«زقاق المدق»). وقد قال محفوظ ذات مرة: «لو لم أحصل على جائزة نوبل، لما تُرجِمت كتبي على الأرجح».

كما أننا رأينا الأثر نفسه، في مواقف وأماكن أخرى، مثلما حدث مع رواية «النباتية» للكاتبة الكورية هان كانج، والتي ترجمتها إلى الإنجليزية ديبورا سميث، إذ فازت بجائزة «بوكر» الدولية. فالإعجاب لم يكن موجّهاً للأسلوب الأدبي وحده، بل أيضاً، إلى قدرة المترجمة على إيصال صوت هان بدقّة.

إن المترجمين العظماء ليسوا آلات، وإنما هم قرّاء وشعراء وسفراء ثقافة، بالدرجة الأولى. فكما قال الكاتب اللبناني-الأمريكي أمين الريحاني: «اللغة مفتاح روح الأمة». إن المترجم المتمكّن لا يكتفي بالإتقان اللغوي.

بل يمتلك حسّاً أدبياً يُمكّنه من نقل روح النص إلى لغة جديدة دون أن يُفقده نبضه. إن المهارة في الترجمة الأدبية تتجاوز القواعد والأساليب. فهي أشبه بعزفٍ منفرد يتحول المترجم في فضاءاته إلى مؤدٍ بارع يترجم الإحساس والإيقاع والدلالات والثقافة، وليس الكلمات فقط.

هناك بعض الجماليات قد لا تُنقل بالكامل، كما الحال مع الأفلام المُقتبسة عن الروايات التي كثيراً ما تفقد شيئاً من روحها، وذاك ينطبق على الترجمة، إذ ربما تُفرِّغ بعض الترجمات الركيكة النصوص من روحها. وهنا يأتي دور القارئ الثنائي اللغة، حيث يستطيع المقارنة بين الأصل والترجمة ومن ثم تحديد ما إذا كانت روح القصة نجت من الرحلة.

إن كل من شاهد أفلاماً أجنبية مقرونة بترجمة نصية، يدرك هشاشة التوازن بين الصوت والمعنى. فالكلمات قد تُختصر على الشاشة، لكن العاطفة تصل، والإيقاع يُحسّ واللغة تُلامس القلب حتى ولو أننا لم نفهم مفرداتها.

لقد غيّرت أدوات الذكاء الاصطناعي مجالاتٍ كثيرة، ومن بينها الترجمة. لكن، ورغم دقّتها المتزايدة، تظل آلية لا تملك القدرة على تذوّق الجمال الأدبي أو نقل الشعر بين السطور. إنها قد تُسعفنا في ترجمة المعنى، إلا أنها تعجز عن نقل الإيقاع.

ولهذا تبقى الترجمة الأدبية حرفة إنسانية خالصة. فالجيدة منها لهي أشبه بعرض مسرحي، يكون فيه المترجم ممثلاً ومفسّراً في آنٍ واحد، ينقل صوت المؤلف الأصلي بلغة جديدة. وكما قال أمبيرتو إيكو: «الترجمة فن الفشل».

وفي دولة الإمارات، نشهد اليوم التزاماً متجدداً بدعم الترجمة. فعلى سبيل المثال، هناك المبادرات المتخصصة بالترجمة لمؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة. كما يقدم معرض الشارقة الدولي للكتاب ومعرض أبوظبي الدولي للكتاب، منحاً للترجمة. وهناك جوائز مهمة في الصدد، مثل: جائزة «سيف غباش بانيبال لترجمة الأدب العربي».

إضافة إلى مبادرات مركز أبوظبي للغة العربية، التي تفتح نوافذ جديدة مؤثرة في المجال. كذلك أسهمت «الجائزة العالمية للرواية العربية» في تسليط الضوء على أصوات جديدة.

ومن بينها رواية «ساق البامبو» للكاتب الكويتي سعود السنعوسي، التي تُعدّ من الأعمال التي تجاوزت الحدود بلغتها ورسالتها ونجاح ترجمتها، خير دليل على براعة ناقلها وروحها العالمية.

وأود أن أختم مقالي بسؤال مفاده: ما آخر كتاب قرأتموه مترجماً؟ ما الذي جذبكم إليه؟ وهل فتح لكم نوافد على عوالم لم تعرفوها من قبل؟

ربما حان الوقت لنعود إلى الأدب المترجم. لنقرأ رواية وُلدت بلغة أخرى، ونُقلت بحبٍّ إلى لغتنا. فلنتذكّر أن الحكايات لا تعرف الحدود.

الوطن هو القصيدة.. فلنواصل ترجمة هذه القصيدة.. لنا وللعالم.