ثمة لحظة خفية ندرك فيها أن الأشياء التي ترافقنا ليست صامتة كما نظن، بل تعرف عنا أسراراً عميقة لا نبوح بها، نغادرها ونحن نعتقد أننا نتركها خلفنا، لكنها تظل تحمل أثرنا، فنحن لا نعيش بين الأشياء فحسب، بل نعيش بها، وهي التي تعيد إلينا ملامحنا حين تتبدد أفكارنا، وتخلق حدود الإدراك وشكل العاطفة معاً.

في كتابه «فلسفة الأشياء الصغيرة»، يكتب الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني أن الفلسفة لا تبدأ من المفاهيم الكبرى، بل من الإصغاء لما هو يومي ومألوف، فالأشياء الصغيرة كما يرى هي التي تختبر صدق وجودنا، لأنها تمنح المرء فرصة بأن يكون ذاته لا شيئاً آخر، وهذه الدعوة ليست ترفاً تأملياً، بل نزع للهيمنة التي مارستها المفاهيم الكبرى على التجربة الإنسانية، فالمسكيني يعيد الاعتبار للتفاصيل المنسية، تلك التي تتكثف فيها حياة الإنسان أكثر مما تتكثف في الشعارات أو النظريات، إنه يقترح أن تكون الفلسفة قريبة من الملمس، قادرة على رؤية ما تشعر به الروح قبل أن تفسره اللغة.

وانطلاقاً من هذا الفهم، يمكن القول إن أنطولوجيا الشيء ليست بحثاً في المادة بقدر ما هي بحث في الوجود المشترك بين الإنسان ومحيطه، فالشيء لا يعيش بمعزل عن صاحبه، بل يكتسب حضوره من تكرار اللمس والنظر والاستخدام، حتى يصبح شاهداً على زمنٍ مضى، وذاكرة بعيدة في تكويننا، وهكذا يلتقي الإنسان بالأثر في عناق وجودي حميم، فالمقعد الذي ضم تعبنا، والكتاب الذي احتفظ ببصمات شغفنا، والساعة التي ورثناها من يدٍ غابت، وشهادة التكريم التي منحت احتفاءً بمنجز، والوردة المعتقة بين دفتي كتاب، والسيارة القديمة التي اكتنزت بها أحلامنا وقطعت معنا مشاوير العمر، ليست تفاصيل عابرة، إنها أشكال من الذاكرة المادية التي تحفظ ما لا تقوى الذاكرة الذهنية على استعادته، إنها شواهد على مشاعر وأحداث تشكل خريطة معرفية للذات.

قد يبدو هذا الحضور المادي هامشياً، لكنه في حقيقته شرط للكينونة الإنسانية، فلا ينظر إلى الإنسان بوصفه كائناً ذِهنياً محضاً - كما ظنت الفلسفات العقلانية - بل بوصفه جسداً يعبر العالم ويلامسه ويتأثر به، والأشياء بهذا المعنى، لا تتجاوزنا بل تشكل امتداداً طبيعياً لذواتنا، فنحن نتبادل معها الذاكرة، نُشيخ فيها كما تشيخ فينا، ونترك عليها علاماتنا كما تترك فينا أثرها.

الأشياء إذاً ليست ترفاً، بل نظام خفي لترميم المعنى، إنها تحفظ توازننا النفسي حين ينهار التجريد، وتؤنسنا حين يصير العالم محايداً، فحين نرتب طاولة العمل بعناية أو نصر على استخدام قلمٍ بعينه، لا نفعل ذلك لأننا أسرى عادة، بل لأننا نبحث عن علامات تؤنس الوجود وتجعله قابلاً للفهم والتعايش، فعلاقة الإنسان بالأشياء هي طريقته في أن يطمئن إلى واقعيته.

لكن المفارقة أن الإنسان الحديث، الذي يكدس الأشياء أكثر من أي وقت مضى، فقد قدرته على العِشرة معها، إذ تستبدل الأدوات بشكل متواصل، ويفقد أثرها قبل أن يتشكل، وهكذا تفقد الأشياء روحها، ويفقد الإنسان مرآته المادية، فليس الخطر في الاستهلاك المفرط فحسب، بل في «النسيان الأنطولوجي» وهو أن نعيش في عالمٍ لا يترك فينا شيئاً ولا نترك فيه أثراً.

وفي ثقافتنا الإماراتية، ما زالت بعض الأشياء تقاوم هذا المحو، فدلة القهوة التقليدية التي تنتقل بين الأجيال، والسرود العتيق المجدل بالحب في بيوتنا، ولوحة تحمل ذكريات بعيدة بقيت على الجدار رغم تغيّر الأثاث، وسلة الرطب على كل مائدة، هذه الموجودات لا تنتمي للماضي، بل تواصل أداء وظيفة رمزية تحفظ للإنسان إحساسه بالاستمرار، فهي لا تخبرنا عما نملك، بل عما كنا عليه، وتذكرنا بأن الهوية ليست فكرة بل ممارسة يومية في التعامل مع العالم.

أنطولوجيا الشيء هي في جوهرها فن الإصغاء إلى الوجود المألوف، والأشياء الصغيرة ليست نقيض الفكر، بل طريقته الأكثر تواضعاً في أن يكون حياً، وحين نغيب لا يبقى منا سوى ما لمسناه بصدق، كتاب اهترأ من التكرار، أو مقعد يعرف شكل غيابنا، وهكذا تكتب الأشياء سيرتنا الأخيرة بالأثر وبالكثير من الذكريات..!