لا يخفى على من يتابع أخبار دولة الإمارات العربية المتحدة أنها واحدة من أكثر الدول حرصاً على تحقيق أفضل المؤشرات العالمية في جميع معايير التقدم الحضاري بجميع مساراته، وربما خطر في بالِ بعض الناس أن هذه السياسة تعكس نوعاً من التوجس أو الرغبة في الاستعراض، وهو ما طرحه بعض الصحافيين على صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، وهو ما لخصه سموه في افتتاحية الدرس السادس عشر من دروس كتابه العميق «علّمتني الحياة» حين قال: «في لقاء جمعني مع نخبة من المثقفين من العالم العربي سألني أحدهم عن سر غرامنا بالتقارير الدولية والمؤشرات التنموية، مؤشرات البنية التحتية وترتيبنا فيها، ومؤشرات بيئة الأعمال، ومؤشرات الجودة الرقمية، ومؤشرات التجارة الخارجية والسياحة والاقتصاد، وحتى مؤشرات نظافة المدن وترتيبنا العام فيها».
هذا هو ملخص ما تحرص عليه دولة الإمارات العربية المتحدة للاطمئنان على موقعها المتقدم بين دول العالم، وهو ما تولى صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم الرد عليه وتوضيح المقاصد والغايات التي تتغياها الدولة من الحرص على التقدم في هذه المؤشرات بقوله: «الأمر أعظم من ذلك يا صديقي، هل رأيت في المستشفى، عندما يضعون للإنسان أجهزة قياس مؤشراته الحيوية ومدى تطورها أو تدهورها، هل تعتقد بأنها موجودة للمباهاة؟ أو لرفع معنوياته؟ أم تنظر لها بأنها ضرورة وجودية للتأكد من صحته وحيويته وصموده وبقائه؟»، بهذه اللغة الواثقة وهذه الرؤية العميقة الصائبة يصحح صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم طبيعة الموقف من حرص دولة الإمارات على النجاح في المؤشرات العالمية، وانظر إلى دقة المثل الذي ضربه سموه وقدرته الإقناعية بحيث لا يبقى أدنى شك في نفس السائل، ليردف سموه هذا الجواب الرائع بقوله توضيحاً للموقف وجلاءً للصورة حين يقول: «هكذا هي مؤشراتنا التنموية، ليست أرقاماً للتفاخر، بل ننظر لها كجزء من معركة وجودنا، جزء من قياس أثرنا في هذا العالم، وجزء من حيوية وصحة مشروعنا التاريخي والحضاري»، فكانت هذه الكلمات من قائد متبصر في حقائق الأمور، هي خير جواب يبدد النظرة الخاطئة لسياسة الدولة، ويكشف عن عمق النظرة التي تنتهجها القيادة الحكيمة في الحرص على سلامة العملية التنموية من خلال المراقبة الدقيقة للأداء الحكومي، ليواصل سموه توضيح الصورة فيقول: «يا صديقي، إن عملنا الروتيني في متابعة مؤشراتنا هو جزء من معركة كبرى للبقاء الحضاري، لحماية وجودنا، وتأكيد ضرورتنا للعالم».
ثم يتحدث سموه بنبرة لا تخلو من الأسف على مجد العرب الضائع، ويؤكد أن الإنسان العربي قادر على صنع مستقبله اللائق به، وأنه ليس كما يقال عنه بأنه إنسان قابل للاستعمار، وبأن الشعوب العربية شعوب مستهلِكة، ليقرر بنبرة واثقة أن الأمر بخلاف ذلك حين يقول: «نحن لسنا كذلك يا صديقي، ولن نكون»، متابعاً توضيح المغزى العميق من الاهتمام بالمؤشرات العالمية قائلاً: «ومشروعنا اليوم الذي نتابع مؤشراته باهتمام هو مشروع للدفاع عن وجودنا التاريخي، والمستقبلي»، لتكون فكرة الدفاع عن الوجود العربي عميقة الرسوخ في فكر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، الذي يبذل من الجهود العظيمة في سبيل استعادة مجد العرب ما لا يخفى على كل ذي بصيرة، لأن الأمر بالنسبة لسموه هو إيمان راسخ عبّر عنه بقوله: «نحن نؤمن بأن هويتنا ليست ما ورثناه من التاريخ فقط، بل ما نصنعه اليوم، وما نقدمه اليوم للعالم»، ففي هذا التأكيد من سموه إصرار على أن لهذه الأمة هوية حضارية عميقة الجذور في تربة الحضارة الإنسانية، وأنها ليست طارئة على هذا العالم، وأن رسالتنا لهذا العالم تتجلى في هذا الحضور العميق للعرب في المشهد العالمي، وهو ما أعاد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم التأكيد عليه بقوله: «نحن نؤمن بأن المشاريع التي نتابعها، والمدن التي نبنيها، والاقتصاد الذي نصنعه ليست مباني وعمراناً ومؤشرات، بل هي رسائل سياسية وحضارية للعالم وللأجيال بأننا قادرون».
إن هذه الكلمات من صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم تلخص أن وراء هذه النهضة توجد رؤية فكرية وحضارية، وأن ما يجري في بلادنا ليس مجرد تكديس للخرسانة المسلحة ولا القصور الفارهة، بل هو بروز واثق إلى هذا العالم بأننا أصحاب رؤية خاصةٍ بنا، وأن ما نقوم به هو تجسيد لهذه الرؤية، وهو ما أعاد التأكيد عليه سموه بقوله: «نحن نؤمن بأننا لسنا ضحايا تخلف واستعمار، بل نحن صناع نهضة وحضارة، نحن نؤمن بأننا نعمل على مشروع صامت ولكن عميق لاستئناف الحضارة بطريقة مختلفة، نعم نحن نحب الماضي ولكن لا نعيش فيه، وننجز في الحاضر ولكن دون أن نستسلم له».
ثم يعود صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم إلى الإيقاع الهادئ في توضيح الصورة والمقاصد حين يقول مخاطباً صديقه قائلاً: «يا صديقي، الطرق والمباني والجسور والمطارات والبنوك والأعمال والتجارة والسياحة والعقار ليست مظاهر، بل دفاع عن الهوية وبناء لها بطريقة جديدة، هي ليست ترفاً، بل الترف الحقيقي أن تعيش بلا مشروع، وبلا فكرة، وبلا حلم جماعي ومشروع حضاري»، ليستأصل بهذه الكلمات كل نظرة تنظر بعين الشك إلى سياسة دولة الإمارات في حرصها على النجاح في المؤشرات الحضارية، لأن ذلك هو تعبير عن الهوية الحضارية للدولة، الدولة التي تبذل كل جهد لامتلاك حلمها الخاص، لأن «من لا يملك مشروعه سيكون جزءاً من مشاريع الآخرين، ومن لا يملك حلمه سيكون جزءاً من أحلام الآخرين، ومن لا يملك أجندة حضارية واضحة، سيكون جزءاً من أجندات الآخرين»، حسب تعبير سموه في كلامه عن هذه الفكرة على وجه الخصوص.
ثم تزداد نبرة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم قوة وحزماً في نهاية هذا الدرس حين يقول: «مشاريعنا التي نتابعها هي الخط الفاصل بين أن تكون دولة قادرة، أو دولة قابلة للزوال»، ويعلل سموه حرص الدولة على ذلك بقوله: «ومن لا يخوض معركة البناء اليوم ويتابع مؤشراتها بشكل يومي، سيخوض معركة البقاء غداً، لأننا نؤمن بأن الدولة التي لا تبني مشروعها الوجودي في عالم اليوم، فإنها تحفر قبرها التاريخي والحضاري»، ليختم سموه هذا الدرس العميق بقوله: «هل عرفت يا صديقي سر غرامنا بالمؤشرات التنموية والتقارير العالمية التي تقيس تطورنا؟».