ها هو اليوم التالي لحرب غزة يطل علينا من بوابة تاريخية بعد عامين هما الأسوأ في الملف الفلسطيني، بعد فقدان ما يزيد على 67 ألف شخص من أهل غزة حياتهم، بينهم ما لا يقل عن 20 ألف طفل، وإصابة ما يزيد على 167 ألف شخص آخرين، يجد أهل غزة أنفسهم أمام اليوم التالي المنتظر وهو محمل بالتحديات.
قصص كثيرة تتواتر من العائدين الذين وجدوا بيوتهم وقد تمت تسويتها بالأرض، وفي كل قصة نبرة صمود، أو ملمح إصرار على المضي قدماً للملمة ما يمكن لملمته، حتى لو كان فتاتاً، وهذا عظيم.
العظيم أيضاً أن يشهد اليوم التالي مسارين متزامنين متسارعين متكاملين: الأول توحيد الصف الفلسطيني فعلاً لا قولاً، وإعادة بناء غزة لعلها تكون إعادة إعمار أخيرة لما بعد الصراع المميت.
وعلى الرغم من الدور المحوري الذي لعبته الولايات المتحدة الأمريكية، وبعدها عدد كبير من دول العالم في الوصول إلى مرحلة السلام الأولى، إلا أن الداعم والضامن والمراقب لاستدامة هذه المرحلة، وما يتلوها من مراحل، تظل هي الدول العربية، وتحديداً الدول العربية الضالعة في ملف الصراع بشكل مباشر.
إعادة إعمار غزة ملف بالغ الصعوبة والتعقيد، وكانت صور الأقمار الاصطناعية تخبرنا طيلة عامي الحرب، ثم متابعات الكاميرات وشهادات أهل القطاع تضيف إلى الأخبار أبعاداً أكثر واقعية، وإن كانت مأساوية، لما جرى في مدن القطاع التي تم تسوية الكثيرة منها بالأرض تماماً.
الحديث هنا ليس عن إعادة بناء عمارات سكنية تهدمت، أو مبانٍ وهيئات حكومية أو أماكن عمل لم تعد موجودة أصلاً، أو مدارس ومستشفيات خرجت من الخدمة قبل أشهر فقط.
والحديث أيضاً ليس عن بناء مدينة أو مدن جديدة، فهذا أمر أسهل بكثير حين يتم ذلك في أرض فضاء أو صحراء يجري بناؤها، ثم يستقدم السكان لإعمارها، إعادة البناء في هذه الحالة أصعب بكثير من البناء من الصفر.
إعادة إعمار غزة مقدر له أن يتم بينما 2.1 مليون شخص يعيشون فيها بشكل أو بآخر، هؤلاء لهم احتياجات تبقيهم على قيد الحياة لحين الانتهاء من إعادة الإعمار. أسئلة كثيرة يتم طرحها: كيف سيتمكن أهل غزة من العيش وسط الأنقاض؟ وكيف ستتمكن فرق العمال والمهندسين والماكينات العملاقة من العمل، بينما السكان من حولهم في كل مكان؟
وكيف تجري عمليات إزالة الركام بحرص حيث المؤكد أن جثامين كثيرة مدفونة تحتها؟ وأين سيذهب ما لا يقل عن 55 مليون طن من الركام وغزة في الأصل تعاني ضيق المساحة وكثافة السكان؟ وماذا عن المواد الخطرة على الإنسان والبيئة في الأنقاض؟ وأسئلة كثيرة حول لوجستيات إعادة الإعمار، وكأن كلفة الإعمار أمر محسوم.
الممثل الخاص للمدير العام لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في فلسطين، جاكو سيلييرز، يقول إن تكلفة إعادة إعمار القطاع تقدر بنحو 70 مليار دولار.
الأيام القليلة المقبلة ستشهد العديد من الفعاليات والمؤتمرات الدولية والعربية المخصصة للبحث في إعادة إعمار قطاع غزة، وهذا أمر مثير للتفاؤل، وعلى الأغلب سيتم التوصل لشكل ما لتوفير هذه المبالغ والاتفاق على الجهات المشاركة في عملية إعادة البناء الأصعب في التاريخ الحديث، لكن، هذا يتطلب طرح موقف القيادة الفلسطينية على طاولة الحسم اليوم قبل الغد.
من دون اتفاق واقعي ومستدام ومضمون لقيادة فلسطينية قوية موحدة تمنع الانزلاق نحو عنف أهلي، وتحظى باتفاق وقبول ينهي منافسة ميليشيات أو جماعات مسلحة تنافسها في القوة والقرار، فإنه لا اتفاق سلام سيدوم، أو إعادة إعمار ستستدام، وسرعان ما سينزلق الملف في موجة خراب جديدة، ويجر معه المنطقة برمتها لحلقة جديدة من حلقات الصراع.
وعودة إلى الداعم والضامن والمراقب، ألا وهو حزمة الدول العربية التي أخذت على عاتقها مسؤولية إنسانية واستراتيجية وسياسية وتاريخية للإبقاء على فلسطين، ولم تتأثر بمزايدات وتنظيرات وضغوط. الفرصة الآن ذهبية، وإن كانت المهام ثقيلة ومعقدة ومتشابكة، لكن ليست مستحيلة.