أحد المآزق الضاغطة على الاقتصاد الإندونيسي اليوم عنوانه النفط. فهذه البلاد التي كانت تنتج وتصدر النفط للخارج يوماً ما، وكانت بتلك الصفة عضواً في منظمة أوبك منذ عام 1962، أي أنها انضمت إلى المنظمة بعد قيامها بعامين، تحولت عاماً بعد عام إلى دولة غير مصدرة، بسبب ازدياد الطلب الداخلي على نفطها، الأمر الذي اضطرت معه المنظمة إلى تعليق عضويتها في الأوبك في 2009، لعدم تطابق وضعها مع معايير المنظمة. وفي عام 2015 عملت جاكرتا على تنشيط مواردها النفطية وطلبت الانضمام مجدداً إلى المنظمة، فوافقت الأخيرة على الطلب، لكن تم تعليق عضويتها مرة أخرى في ديسمبر 2016 حينما طلبت أوبك منها تخفيض الإنتاج، وهو ما لم تستطع الالتزام به.
لكن القصة لم تنتهِ عند ذلك. فتزايد معدلات الطلب الداخلي على الوقود والطاقة راح يتزايد باضطراد، بسبب تزايد عدد السكان عاماً بعد عام، معطوفاً على ارتفاع وتيرة الأنشطة الصناعية المستهلكة للطاقة، وهذا بدوره ابتلع كامل إنتاج إندونيسيا النفطي، وأهلك احتياطياتها، لتتحول البلاد اليوم إلى مستوردة للنفط، وتضطر إلى سداد فواتير ضخمة بالعملة الصعبة وتحميل الاقتصاد أعباء إضافية كبيرة.
وليت المشكلة توقفت عند هذا الحد، لكنها تجاوزت إلى مشكلة أخرى تتمثل في اضطرار جاكرتا لاستيراد النفط مكرراً وليس خاماً، بسبب تقادم مصافيها النفطية، وضعف طاقتها الاستيعابية، أي عدم قدرتها إلا على تكرير ما نسبته 60 بالمئة من الخام.
وتشير الأرقام إلى أن إندونيسيا تنتج يومياً نحو 608 آلاف برميل من النفط الخام، فيما يبلغ الاستهلاك المحلي نحو 1.6 مليون برميل يومياً، وهو ما يخلق فجوة كبيرة بين الإنتاج والطلب، ويجعل أمن البلاد من الطاقة هشاً. ولسد هذه الفجوة تعتمد البلاد بشكل كبير على النفط المكرر المستورد، متحملة صدمات العرض الخارجي وتقلبات الأسعار العالمية. هذا علماً أن مصدر إمدادات إندونيسيا من النفط المكرر كان ولا يزال هو سنغافورة، على اعتبار أن هذه الجزيرة الصغيرة هي الأقرب إليها جغرافياً، ناهيك عن أنها أكبر مركز تكرير في جنوب شرق آسيا بطاقة تتجاوز 1.5 مليون برميل يومياً.
وتوضح العلاقة النفطية بين إندونيسيا الكبيرة في مساحتها وسكانها ومواردها النفطية وغير النفطية، وسنغافورة الصغيرة مساحة وسكاناً والخالية من الموارد الطبيعية، خللاً هيكلياً وإدارياً في التخطيط الاقتصادي للمستقبل في إندونيسيا، مقابل نجاح صانع القرار السنغافوري في إدارة اقتصاد البلاد والتخطيط للمستقبل برؤى حكيمة ودقيقة.
وبعبارة أخرى، واصلت سنغافورة البناء على ما خططه ونفذه قائدها ومؤسس نهضتها الراحل «لي كوان يو»، لجهة تحويل الجزيرة إلى معجزة تنموية وحضارية خالية من الفساد والتسيب والمحسوبية والفلتان الأمني، بينما فشلت الحكومات الإندونيسية المتعاقبة منذ سقوط الديكتاتورية السوهارتية الفاسدة في عام 1998 في إدارة ثروات البلاد والمحافظة عليها وتوجيهها نحو التنمية المستدامة بكفاءة. ولعل أحد الأمثلة التي يمكن التطرق إليها في هذا السياق هو الوضع المزري لمصافي تكرير النفط الإندونيسية. فعلى مدى العقود الثلاثة الماضية فشلت جاكرتا في بناء مصاف جديدة بالوتيرة المطلوبة، وهو ما جعل أمنها في مجال الطاقة مهتزاً، وموازنتها مثقلة بفواتير النفط المكرر، وبالمبالغ المخصصة لإعانات الطاقة (بلغت هذه الإعانات في عام عام 2022 مثلاً نحو 33 مليار دولار).
للخروج من هذا المأزق، تحاول الحكومة الإندونيسية جاهدة توسيع مصافي التكرير الحالية وتحديثها، ولديها خطط معلنة بخصوص إنشاء مصفاة جديدة بطاقة 500 ألف برميل يومياً وتكلفة تقدر بنحو 1.25 مليار دولار. وذلك بهدف تقليل الاعتماد على النفط المكرر المستورد. إلى ذلك، تحاول جاكرتا أيضاً الاستفادة من ميزة عضويتها في مجموعة «بريكس» للوصول إلى النفط الخام الروسي منخفض السعر على غرار ما تفعله الهند والصين، العضوين الآخرين في المجموعة.
غير أن الباحث الإندونيسي المتخصص في الجغرافيا السياسية والطاقة الدكتور أحمد حنان يحذر من هذه الخطوة لأنها ستدخل إندونيسيا في صدامات وتوترات هي في غنى عنها مع الولايات المتحدة والغرب، ناهيك عن حقيقة مرة هي أن استيراد الخام الروسي دون توفر طاقة تكريرية محلية كافية ليس علاجاً وإنما هدر للمال والوقت. ويوصي الباحث جاكرتا بأن تخصص استثمارات لاستغلال احتياطاتها من الهيدروكربون غير المستغلة، وإمكاناتها الهائلة في مجال الغاز الطبيعي، وذلك بالتعاون مع دول مثل اليابان وأستراليا صاحبتي الخبرة في هذا المجال.