تحدثنا سابقاً في سلسلة فلسفة التراث حول «فلسفة المعتقدات الشعبية في دولة الإمارات» وناقشنا ما يمكن أن ينطوي عليه المجتمع من أنساق رمزية تعيد إنتاج هويته عبر الزمن. ولكن الفكرة التي تظل تراودني بشكل دائم، وتحفز ذاكرتي، هي كيف يتنفس الموروث بروح حية متجددة، ويتمكن تشكيل العلاقة بين الفرد ومجتمعه، وبين الإنسان وكونه، في نسق متكامل من التجربة والمعنى خصوصاً على هذه الأرض الطيبة الغالية العريقة؟

ومنذ أن قررت أخيراً وزارة التربية والتعليم تخصيص وقت لصلاة الظهر جماعة داخل المدارس الحكومية، عادت الفكرة ذاتها تمثل أمامي، فقد تراءى لي كيف أن المدرسة الإماراتية اليوم سوف ترسخ هوية إماراتية تتسع للعلم والتاريخ والروح معاً، فهذا المشهد الثقافي الإماراتي يتناغم كلياً مع روح المكان، فحينما نعلم أولادنا أهمية الموروث الديني المرتبط بهويتنا الثقافية وندرك دور «الصلاة» ومكانتها التكوينية في بناء الشخصية، ونعمل على تحقيق الأهداف المتوخاة من ذلك، بحرص وحذر شديدين، ودون أن تتحول هذه الإضافة القيمة إلى مجرد فسحة للخروج من الصف الدراسي، وباللين والأساليب التربوية اللطيفة، فإننا سوف ننسج للطالب وعياً قد يصقل وجدانه الثقافي منذ الصغر، ويؤسس في قلبه، أو ينمو، كل من الدين والتراث والهوية في لحظة واحدة.

الفضاء التربوي منطقة عمل مهمة جداً، وكثيراً ما أتحدث عنها، أما الصلاة، فسوف تضيف إلى العلوم التي يتلقاها الطالب مفاهيم كثيرة موجودة وأساسية في تراثنا الإماراتي، مثل المبادئ والانتظام والانضباط الداخلي، وهي تزرع أيضاً قيمة تراثية إماراتية عظيمة، وهي الشعور بالمسؤولية، والعمل الجماعي، وغيرها، وهي القيم ذاتها التي ورثناها عن أجدادنا في أعمالهم في البحر، وفي مزارعنا، وبيوتنا ومجتمعنا المتماسك، وهي مجموعة قيمية نأمل أن تصبح في مدارسنا فعلاً ممارسات حية تمارس ضمن إيقاع زمني وروحي منتظم.

ينبض الموروث الديني في البيوت الإماراتية في جميع تفاصيل الحياة اليومية، ويروي الأجداد والجدات قصص الأنبياء في سمر المساء، ويسمع الطفل تحيات الصباح وبركاته المطرزة بذكر الله، والتوكل على الله، والاستغفار، والتسبيح، وعلينا أن نكون متيقنين أن هذه الإشارات اليومية تصنع ذاكرة جماعية لدى الناشئة، وتقوي لديهم أسس الانتماء الروحي والثقافي.

القرآن الكريم في البيوت الإماراتية وفي مؤسساته ومجتمعه لا ينقطع حضوره. يتلى في الجلسات الأسرية، ويحفظ في الصدور، وتستدعيه الأمهات في نصائحهن، والآباء في توجيههم، والمعلمون في توضيحهم للمعاني الكبرى. يعيش النص المقدس في البيت والشارع والمدرسة، وينسج بوجوده شبكة من القيم التي تضيء الحياة وتثبت الخطى.

موائد الإفطار الرمضانية أيضاً تحمل أبعاداً اجتماعية وروحية تتجاوز الأكل إلى الحضور والتشارك. تمتد هذه الموائد لتعكس تراثنا في الكرم والتقارب، وتعبر الأطعمة التراثية عن أزمنة محفوظة في الذاكرة الجمعية. هنا تتقاطع الذائقة مع الوجدان، ويتحول إعداد الطعام إلى فعل ثقافي يعبر عن روح الشهر وروابطه.

علينا العمل بجد في منطقة الفضاءات الرقمية، ودفع الشباب الإماراتي إلى تجديد العلاقة مع موروثه الديني، عبر مبادرات إبداعية تنسج من قيم الماضي لغات معاصرة.

فقد تنتج هذه المبادرات مشاهد بصرية وأدبية وإعلامية تعبر عن وعي أكثر شمولية، فمثلاً يمكن أن يقدم الموروث الديني كطاقة روحية ملهمة، وأن يتم الاستثمار في أدوات العصر لإعادة تقديم القيم بجاذبية وعمق.

التنوع الثقافي الذي تحياه الإمارات، ينسجم كلياً مع النصوص الدينية والأشكال التعبيرية الشعبية، فتكتمل اللوحة الرمزية للهوية، ويمتد هذا الانسجام ليشكل حالة توازنية تجمع بين الامتداد التاريخي والانفتاح المعرفي.

كما تنبت النخلة في صلابة الرمل وتوجه سعفها للسماء، تنمو الهوية الإماراتية في تربة الموروث، وتنهل من ماء القيم، وتستمد من الشمس رؤيتها نحو المستقبل.

وفي هذا التكوين الإماراتي الفريد، تتآلف عناصر الماضي مع أسئلة الحاضر دون صدام، وتبنى الذات الوطنية في مسار متجدد.

محاولاتي في سلسلة التراث، التي قررت نشرها في كتاب مطبوع، تتركز حول رؤية قراءة سوسيولوجية متكاملة للمجتمع الإماراتي، وبالنسبة للموروث الديني، سأظل دائمة الحفر حول علاقة ديننا الحنيف وتاريخنا وقيمنا وطقوسنا وعاداتنا و«سنعنا» مع هويتنا المتفردة، وكيف تتحرك جميعها ضمن دائرة قيمية تتكرر وتتجدد، وتمنح الفرد هويته المنيعة، وتنمي في داخله نظاماً رمزياً يجعله دائماً يتذكر جذوره ويحرص على نموها في امتداداته.