مطر الأحمدي اسم مزروع بأوتاد متينة في بلاط صاحبة الجلالة، الصحافة، وشخصية إعلامية تبهرك بطيبتها وبساطتها وتسامحها وحديثها غير المتكلف ومخزونها المكتنز من التجارب الإنسانية. قابلته عدة مرات في الملتقيات الإعلامية بصحبة محبيه وأصدقائه الكثر من رجال الصحافة والإعلام، فلم يزدني ذلك إلا إعجاباً بأدبه وثقافته ورقي روحه وجمال خصاله، وعلى رأسها خصلة الوفاء لزملائه وللأمكنة التي عاش بها، ولمن تعلم على أياديهم صنعة الكتابة، ناهيك عن خصلة الرضا بما قسمه الله له، حيث نقل عنه قوله: «أنا لم أخطط لشيء في حياتي، قد يكون ذلك خطأ، كما أنني لم أندم، لأن كثرة الندم والوجع لا تفيد، والندم لا يعيد إليك ما فات».

وصفه أحد المحررين بقوله: «هو رقم صعب في الصحافة السعودية، ترى نِتاجه وتقرأ مطبوعته مجلة «لها» فتظن أنك في حضرة قيصر للصحافة، وما إن تجلس إليه حتى يُشعرك بأنه الأقل موهبة والأكثر حظاً، ويعد أن كل شيء يأتيه ولا يذهب هو إليه»، ثم استطرد المحرر قائلاً: «مطر الأحمدي له من اسمه نصيب، فهو غيث لأي كان، ويحمد ربه كل حين على أي حال. وهو كان مشروع أستاذ جامعي، لكن بعثته لأمريكا بددت كل هذا الحلم».

هو ابن المدينة المنورة التي شهدت حواريها المشرقة بالإيمان والخشوع ميلاده في عام 1953م، ثم دراسته الابتدائية والإعدادية في دار للأيتام احتضنته بعد أن فقد أبويه (سليم بن لافي الأحمدي وماطرة بنت مطر الأحمدي).. تلك الدار التي وصفها ذات مرة بأنها «المؤسسة الفاعلة التي صنعت اسمه وعقله، ومنحته الضوء الأخضر لينطلق».

هذا الطفل اليتيم سوف يكبر، وتكبر معه أحلامه وتطلعاته لاحتلال مكانة سامية في مجتمعه ووطنه السعودي، وتقوده ظروفه الصعبة، بعد سنوات، للرحيل من المدينة المنورة إلى الرياض التي أنهى بها دراسته الثانوية بتفوق لافت، بدليل أنه نال المرتبة 21 على مستوى المملكة العربية السعودية في امتحانات الثانوية العامة، وقتها كان الأحمدي يتطلع إلى المراتب العشر الأولى كي يضمن حصوله على بعثة حكومية لتحقيق حلمه في دراسة الطب البشري في الخارج، لكن تشاء الأقدار أن يتعرض في وقت الامتحانات لمرض أعاق تحقيقه لحلمه، الأمر الذي قاده مضطراً إلى جامعة الملك سعود بالرياض، حيث التحق فيها بكلية العلوم، واختار أن يتخصص في الأحياء، ليتخرج بعد أربع سنوات بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى، ويعين معيداً في كليته، ثم ليبتعث من قبل جامعته إلى الولايات المتحدة لنيل درجة الماجستير في علم الوراثة.

من المؤكد أن تواجده في الولايات المتحدة جعله ينبهر بدور الإعلام في الحياة الأمريكية، فهو القائل: «أدهشني الإعلام هناك بوسائله المتعددة، ما جعلني أعرف معنى السلطة الرابعة».

وبسبب تلك الدهشة، قرر أن يهجر معامل الأحياء والكيمياء ومحاضرات علم الوراثة ليغدو واحداً من رجال السلطة الرابعة، حيث انتقل إلى قسم الإعلام بجامعة نيومكسيكو في ولاية نيومكسيكو الأمريكية، التي منحته درجة الماجستير في الإعلام خلال فترة وجيزة، ليعود إلى وطنه حالماً بوظيفة محترمة في السلك الأكاديمي أو في دوائر الدولة. غير أن تخصصه لم يكن ذا جدوى في تلك الأيام، فلم ينل ما تمناه، وهو ما دفعه إلى أحضان الصحافة المحلية.

ومن الأشياء الأخرى التي عاد بها من الولايات المتحدة غير شهادته العليا، صفة التسامح وقبول الآخر، التي منعته من تشدد وتطرف كاد يذهب إليهما، وبحسب كلامه: «البعثة إلى أمريكا طهرت نفسي من التشدد والتطرف. عشت هناك عن قرب مع مجموعة من البشر وتشاركنا في رابطة الإنسانية، وإنْ اختلف المعتقد. الكل يعبد الله على طريقته. وجدتهم أكثر صدقاً من بعض المجتمعات التي أعرفها، وأكثر حباً للعمل وإتقاناً له، وقبل ذلك وجدت التسامح الحقيقي، ولو لم أنتهِ في أمريكا في تلك السن، لربما كنت في عداد المتطرفين».

بدأ الأحمدي رحلته الصحفية بالالتحاق بصحيفة «الجزيرة» السعودية الصادرة من الرياض، ليعمل بها محرراً قبل أن يترقى خلال أسبوعين فقط ويعين رئيساً لقسم الرياضة فيها بقرار من رئيس تحريرها خالد المالك.

وعليه فقد اقتفى الأحمدي في ذلك دروب بعض من زملائه السعوديين ممن انطلقوا قبله أو بعده إلى عوالم الإعلام والشهرة من العمل أو الإشراف على الصفحات الرياضية كعثمان العمير وعبدالرحمن الراشد والشريف محمد بن شاهين وتركي السديري، مثلاً.

هذا علماً بأن صاحبنا كان شغوفاً بالعمل الصحفي منذ أن كان طالباً في بداية مراحله الدراسية النظامية، إذ تقول سيرته إنه إبان تلك الفترة من حياته، مارس، من خلال النشاط اللاصفي المدرسي، كتابة المقالات وإجراء المقابلات الصحفية لنشرها في صحف الحائط.

ويدين الأحمدي كثيراً لخالد المالك رئيس تحرير «الجزيرة» في ارتقائه سلالم الصحافة والإعلام، حيث سجل عنه قوله في أحد الحوارات الصحفية: «تخرجت في مدرسة خالد المالك، فهو الشخص الذي أخذ بيدي منذ البداية ومنحني فرصة الكتابة وشجعني».

وأثناء عمله رئيساً للقسم الرياضي في «الجزيرة»، لوحظ عليه عشقه لنادي الهلال، وهو عشق لا ينفيه ويقول إنه بدأ معه قديماً بفعل صداقات جمعته مع بعض رجالات النادي، مضيفاً ما معناه أن ذلك العشق لم يمنعه من احترام الخصم التقليدي للهلال (نادي النصر)، والإشادة بعراب ورئيس نادي النصر الأشهر، الأمير عبدالرحمن بن سعود «الذي له فضل كبير علي، فقد دعمني كثيراً في مشواري الصحفي لأنه يحترم الصحافي الذي يحترم نفسه ولا يقبل أن يدار بالريموت كنترول من قبل إدارات الأندية».

من بعد عمله في «الجزيرة» لعدة أعوام قام رئيس تحريرها الجديد محمد بن ناصر بن عباس بفصله من العمل، فخرج من القلعة الصحفية التي بدأ منها يائساً يتسول عملاً، ولحسن حظه كان عثمان العمير وقتذاك رئيساً لتحرير مجلة «المجلة» الصادرة في لندن، وكان عبدالرحمن الراشد نائباً له، فاستنجد بهما، وكانت النتيجة أن أحسنا إليه وخلعا عليه منصب مسؤول تحرير «المجلة» في الخليج، بحسب قوله. و

هكذا انتقل صاحبنا إلى العاصمة البريطانية ليبدأ من هناك فصلاً آخر من حياته ونشاطه، من خلال العمل مع الشركة السعودية للأبحاث والنشر، مسؤولاً للتحرير عن منطقة الخليج، وما لبت أن تم تعيينه نائباً لرئيس التحرير للمجلة بعد صعود الراشد إلى رئاسة التحرير خلفاً للعمير. وفي هذا السياق قال: عملت نائباً لرئيس مجلس المجلة وكنت موفقاً في عملي، وتشرفت في العمل مع عبدالرحمن الراشد، ونجحت ولله الحمد في مجلة (المجلة) وكان هذا النجاح هو جواز السفر إلى رئاسة تحرير مجلة (سيدتي)، وأنا هنا أدين بالشكر والعرفان للأمير الراحل أحمد بن سلمان، رحمه الله، لأنه لم يتأخر في دعمي وتشجيعي... ونقلني من مجلة (سيدتي) إلى مجلة (لها).

نعم، انتقل الأحمدي من مجلة المجلة ذات الطابع السياسي إلى مجلة سيدتي الصادرة أيضاً من لندن، والمتخصصة في أمور بعيدة كل البعد عن السياسة وصداعها، ليخلف عبدالله باجبير في رئاسة تحريرها، وليبقى كذلك على مدى عدة سنوات انتهت في عام 2003، بانتقاله إلى دار الحياة وقيامه بالمشاركة في تأسيس مجلة لها النسائية من بيروت.

كانت سنوات الأحمدي البيروتية خصبة ومليئة بتحديات كثيرة واجهها الرجل بشجاعة، ونجح في تخطيها. فخلال عشر سنوات من تواجده في العاصمة اللبنانية، كان شاهداً على الكثير من الأحداث السياسية العاصفة التي لم توهنه، بل زادته صلابة وخبرة وإطلاعاً وإيماناً برسالته، كما سمحت له تلك السنوات بالتعرف إلى العديد من الكبار والمشاهير في عوالم السياسة والثقافة والفن.

ورغم أنه ترأس تحرير مطبوعتين من أهم المطبوعات العربية الموجهة إلى النساء والأسرة والشباب على مدى عقدين من الزمن، وحقق لهما مكانة رفيعة، إلا أنه اعترف بتواضع بأنه لم يتمكن من إيصال أي من المطبوعتين إلى مستوى المجلات والمطبوعات المعروفة في أوروبا وأمريكا.

في عام 2013 استقال مطر من رئاسة تحرير مجلة لها، فتمت ترقيته إلى منصب مستشار إعلامي«بدار الحياة» للاستفادة من خبراته المهنية المتراكمة، لكن لم يمضِ عليه عام في هذا المنصب الجديد وإلا الأقدار تقوده من بيروت إلى دبي ليبدأ من الأخيرة فصلاً جديداً من حياته بتسلمه ابتداء من يناير 2014 منصب رئيس تحرير موقع «العربية نت» أي الموقع الرسمي لقناة العربية الفضائية في دبي.

ويعد الأحمدي من أنصار حقوق المرأة العربية بصفة عامة، وحقوق المرأة السعودية بصفة خاصة. ولعل ما يبرهن على ذلك هو أن أكثر القضايا الاجتماعية المحلية المؤرقة له كان ممارسة العنف ضد المرأة من قبل زوجها أو ولي أمرها.

فهو القائل: «متى نرى ذلك اليوم الذي تحصل فيه المرأة على الحقوق التي يعترف بها الرجال من فوق المنابر وتنتهي تحت أقدامهم عندما يغلقون عليهم أبواب بيوتهم». لكن قائل المقولة عاش ليرى التغيير الذي أحدثه الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء في المملكة العربية السعودية، في المجتمع، في السنوات الأخيرة، والتي كان من نتائجها نقل المرأة السعودية من حال إلى حال. على أن تأييده للمرأة لم يمنعه من انتقادها.

فحينما سئل عن دورها وأسباب موقعها المتواضع في المناصب الصحافية، كان رده أن عليها، قبل تولي المناصب القيادية، أن تثبت جدارتها بتولي مثل تلك المناصب وترتقي بنفسها لجهة لغة الكتابة وقواعدها وأسلوب التخاطب مع قرائها، مضيفاً: «أنا مستعد لأن أترك مكاني لها إذا كانت مؤهلة لذلك.

ولا أخفي أنني عملت مع صحفيات سعوديات كثيرات، ولكن للأسف وجدت فيهن قاسماً مشتركاً هو أنهن طامحات للمناصب والوجاهة دون وجود مؤهلات أو مقومات لهذا الطموح. ثم هناك حقيقة يجب أن يفهمها الجميع وهي أنه ليست كل من تكتب تعد صحافية، إذ عليها أن تكون أولاً متمكنة من اللغة العربية والأسلوب وتفهم السوق لأن هم أي رئيس تحرير هو تسويق مطبوعته وترويجها».

خلال كل المراحل والتقلبات السابقة في حياته المهنية، حرص الأحمدي على ممارسة عمله بشغف لا حدود له، فكتب المقال السياسي والفني والثقافي، وأجرى الحوارات والمقابلات الصحفية مع كبار الأدباء والمثقفين والمشاهير ورجال ونساء الأعمال العرب، وشارك في العديد من المؤتمرات والمنتديات الإعلامية كمتحدث أو ممثل لوطنه.

سألته صحيفة «اليوم» السعودية الصادرة من الدمام (11/3/2004) عن سر عزوفه عن الزواج كما الحال مع زميليه عثمان العمير، وعبدالرحمن الراشد الذي لم يكن متزوجاً وقتذاك، فأجاب قائلاً: «بالنسبة للزواج، فأنا دخلت هذه التجربة وفشلت فيها لأنها مسؤولية باهظة.. ثم إنني أحببت إنسانة ولم يكتمل النصيب».

قلنا إن الأحمدي وفيٌ لأصدقائه وزملائه ورؤسائه، يذكر الأحياء منهم بالخير، ويترحم على الأموات منهم ويحزن لفراقهم ويروي حكاياتهم معه بالدموع، شأنه في ذلك شأن الكبار المخلصين.

فقد كتب مقالاً يفيض بالحزن والشجن بُعيد رحيل صديقه الإعلامي السعودي سعود الدوسري (ت: 2015) الذي جمعه وإياه العمل في بلاط صاحبة الجلالة والكثير من الحكايات والأوقات السعيدة، ونشر مقالاً آخر عدد فيه مآثر وخصال وجلائل أعمال وزير الإعلام السعودي الأسبق الدكتور عبدالعزيز محيي الدين خوجة بُعيد تركه منصبه الوزاري، فقال عن الأول: «له في قلبي مكان ومكانة، وكان لي مثلهما في قلبه.

زارني في مكتبي في لندن عام 1994. كان ذلك لقائي الأول به. بعد ذلك اللقاء صرت شبه مستشار له. كانت اجتماعاتنا قليلة، بسبب طبيعة كل منا. كنت أسميه الطائر الليلي، وكان يصفني بالطائر النهاري.

وكان يستغرب بمحبة ونكتة أسلوبي في الحياة، الذي يراه نقيضاً لعملي في المجال الإعلامي». وقال عن الثاني إنه: «ينتمي إلى طراز فريد من الرجال الذين يؤدون عملهم دون ضوضاء وضجيج» وإنه «نجح بامتياز في كل مسؤولية أسندت إليه، وحقق فيها تطوراً ملموساً في فترة قياسية.

فهو كوزير للثقافة والإعلام، سجل انفتاحاً إعلامياً لم يسبقه إليه أحد. تعامل مع المؤسسات الإعلامية شريكاً لا رقيباً. وكان يتدخل في الوقت المناسب صديقاً ناصحاً، مقدماً الابتسامة الودودة على سيف الرقيب. وشهد الإعلاميون والإعلام في سنوات توزيره ربيعاً طلقاً بكل ما تعنيه الكلمة».