الذين تابعوا حديث الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، عن الحرب الروسية الأوكرانية طوال فترة السباق إلى البيت الأبيض، تصوروا أنه يملك عصا موسى عليه السلام، وأنه بها سوف يُنهي هذه الحرب منذ اللحظة الأولى لدخوله مكتبه البيضاوي.

الذين سمعوا وقتها حديثه عن هذه الحرب، وعن قدرته على وقفها بسهولة، تخيلوا ذلك، أو تخيلوا أنه على الأقل يملك شيئاً لا نعرفه، ويستطيع به أن يوقف حرباً دخلت عامها الرابع قبيل أشهر.

وهؤلاء جميعاً لم يكونوا يتجنون على سيد البيت الأبيض، ولا كانوا ينسبون إليه قدرات خارقة للعادة.. فهو الذي كان يتطوع طوال أيام السباق، ويتكلم عن قدرته في هذا الاتجاه، وهو لم يكن يتحدث عن قدرته على وقف حرب الثلاث سنوات هذه وفقط، ولكنه كان يضيف أنه لو كان في الحكم يوم اشتعالها في 2022، ما كانت قد اشتعلت من الأصل.

وعلى مدى ما يقرب من ثلاث سنوات في أيام وجود بايدن في البيت الأبيض، كان العالم يتمنى لو ينجح ترامب في السباق الرئاسي، الذي كان يقترب يوماً بعد يوم، لعله يفي بوعده فيوقف حرباً أنهكت العالم وأرهقته، ولم تتوقف من حيث تداعياتها عند حدود الدولتين المتحاربتين فيها وحدهما.

وكيف تتوقف عند هذه الحدود، وقد كنا نرى بأعيننا كيف كانت الولايات المتحدة الأمريكية تحشد وراء أوكرانيا منذ بدء الحرب، وكيف كانت تجر معها أوروبا كلها، ثم كيف كانتا معاً تجران حلفاءهما وراءهما لدعم الأوكرانيين، وتعزيز قوتهم في مواجهة الروس. وكانت روسيا في المقابل تُغري الصين بمساعدتها مرة، أو تغري كوريا الشمالية بالوقوف معها مرة ثانية، أو سواهما في مرة ثالثة.

وهكذا.. كنا نجد أنفسنا أمام حرب عالمية بمعنى مختلف، أو حرب عالمية غير معلنة رسمياً، أو بدايات وعلامات حرب عالمية على الأقل.. ولذلك، فإن الأمر في وقف هذه الحرب كان أعقد مما تصور ترامب في الحقيقة..

وهو نفسه قد جاء عليه وقت ألمح فيه من طرف خفي، إلى هذا المعنى مرة، ثم صرح به في مرة أخرى، وفي المرتين، كان يريد أن يقول إن ما تصوره سهلاً لم يكن كذلك، وأن ما قيل عن أنك من السهل أن تبدأ حرباً، ولكن من الصعب أن تُنهيها، هو قول في محله تماماً، وفي مكانه بالضبط..

فالحروب عموماً ليست لعبة، ولا هي تسلية لقضاء الوقت أو استهلاكه، وربما يكون هذا هو أحد الدروس التي خرجت بها إدارة الرئيس ترامب من محاولاتها وقف هذه الحرب، ولكن دون جدوى.

لقد جرى اتصال هاتفي بين ترأمب والرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في 12 فبراير، دام ساعة ونصف الساعة، وكان الأمل أن يكون الاتصال بهذه المساحة الزمنية الكبيرة، قياساً على مكالمات الرؤساء، سوف ينجح في وقف الحرب، أو على الأقل ينجح في رسم الطريق إلى هذا الهدف، ولكن تبين أن الذين علقوا الآمال العريضة على ذلك الاتصال، كانوا متفائلين أكثر من اللازم..

فلقد مضى فبراير، وجاء من بعده مارس، ثم أبريل بعدهما، وهذا مايو يوشك أن ينقضي، بينما هذه الحرب العبثية مستعرة، لا تبدو لها نهاية قريبة في الأمد المنظور.

وحين جرى اتصال هاتفي آخر بينهما في العشرين من هذا الشهر، فإنه استمر ساعتين كاملتين، وقيل بعده على المستوى الأمريكي، إنه كان اتصالاً مفيداً، وعلى الجانب الروسي، أنه كان كذلك، وأنه من الممكن أن يكون أكثر فائدة من الاتصال السابق عليه في اتجاه إنهاء هذه الحرب، التي تبدو حرباً لا ضرورة لها..

ولكن هذا لا ينفي أن بوتين الذي تصوره ترامب مرناً ليناً، ليس كذلك، ولا هو من النوع الذي إذا سمع عن رغبة أمريكية في إنهاء الحرب لباها على الفور..

فالرئيس الأمريكي يظهر أنه نسي أنه يتعامل مع رجل مخابرات سابق، اسمه بوتين، ويظهر أن ترامب نسي أن بوتين يعيش بيننا في العالم، وفي نفسه شيء من الاتحاد السوفييتي السابق، الذي رآه ينهار ويتفكك أمام عينيه في 1991..

فمن يومها يشعر بوتين بشيء أو بكثير من الألم في داخله، ويتمنى لو يجيء اليوم الذي يتمكن فيه من رد الصفعة، التي وجهها الغرب إلى الاتحاد السابق فجعله يتداعى ويسقط، فيصبح في لحظة، وكأنه لم يكن ذات يوم.

ينسى ترامب هذا أو يتناساه، ولكن الغالب أنه خرج من المكالمتين، وفي عقله شيء من هذا المعنى الذي يستقر في أعماق الرئيس الروسي. وفي كل الأحوال، فمن الواضح أن لدى سيد الكرملين قائمة من المطالب، وأنه يكررها كلما دعاه الأمريكيون لإنهاء الحرب.

وفي النهاية، سوف تجد واشنطن أن عليها أن تتجاوب معه بشكل من الأشكال، وسوف يكتشف سيد البيت الأبيض، أنه بالغ في توقعاته، وأنه مثل السباح الذي قطع بأنه يستطيع عبور البحر، فلما ألقى نفسه في الماء، تبيّن له معنى ما نردده نحن في أمثالنا الشعبية، عندما نقول: «اللي على الشط عوّام»!

والمعنى أن الذي يقف على الشاطئ يتحدث مع السباحين دائماً على أنه سباح ماهر، فإذا نزل بينهم الماء، كان هناك حساب آخر للأمور.