هل يمكن لإنسان أن يعيش محاصراً ويظن أنه حر؟

سؤال يشرئب بتناقض صريح، وبات ملحاً أكثر وأنا أقرأ صفحات كتاب «لا شيء نحسد العالم عليه» لباربرا ديميك حول الحياة العادية في كوريا الشمالية لأستنتج أن هذا الكتاب يروي جانباً سوداوياً من الانغلاق، الذي تفرضه الحكومات على الشعوب، لتعيش في مستنقع الجهل والخوف، وهذه ليست حالة فردية تخص كوريا الشمالية وحدها، بل أشبه بحمى كونية باتت تعاني منها الشعوب النامية مثل الشعوب التي ترفل في وفرة النعيم، فالمجتمعات التي تبدو منفتحة ومتصلة تعيش هي الأخرى في نسخ أنيقة من العزلة، وهذا ما يبني فرضيات جديدة للتفكير والنقاش.

تبدو العزلة في تجربة ديميك أكثر من ظرف سياسي، فهي حالة ميتافيزيقية تعكس مأزق الإنسان حين تنفصل حواسه عن وعيه، ويغدو الواقع نفسه بنية ذهنية، تصاغ من الخارج، فالفرد المحاصر بالمعلومات ليس أقل عزلة من الذي يقيّد خلف الأسوار، إذ يعيش كلاهما داخل نظام يعيد تعريف الحقيقة، وفق ما يجب أن ترى عليه، إنها عزلة مرتبطة بالوعي لا بالجغرافيا، فعزلة الإنسان باتت في زمن أضحى فيه الإدراك الجمعي نسخة مبرمجة من الطمأنينة، تخلقها الأنظمة بوسائل التواصل، وتعيد إنتاجها الثقافة الاستهلاكية في كل لحظة، ومن هنا تبرز المفارقة الكبرى، فكلما ازدادت وفرة الاتصال اتسع الفراغ بين الإنسان وذاته.

لقد بنى العالم الحديث وعوده على فكرة التقدم بوصفها غاية في ذاتها، فالتقنية التي أوجدت لتخدم الإنسان، أصبحت مركز المعادلة، الذي يعيد تشكيل الإنسان ذاته، ومع كل قفزة في أدواته، يتراجع وعيه بماهية ما يصنع، حيث لم تعد المعرفة فعلاً يوسع الإدراك، بل عملية تنتج فائضاً من المعلومة، حتى صار النمو هدفاً فضفاضاً بلا غاية، والاقتصاد بدوره تجاوز كونه وسيلة لتنظيم الحياة، وتحول إلى منظومة أخلاقية جديدة، تعيد تعريف الخير والشر وفق معيار الجدوى، أما السياسة فقد تحولت إلى فن لإدارة القلق الإنساني، أكثر من كونها نهجاً لإدارة الدولة، فالعالم لا يحكم اليوم بالعنف المباشر، بل بإنتاج الرضا وتوجيه الإدراك، وتدار الجماهير بخطابات الطمأنينة، وتقنع الأنظمة شعوبها أن الاستقرار أهم من الحقيقة، وأن الوفرة تعوض المعنى!

إن مأزق العصر لا يكمن في نقص موارده، بل في تشوه الوعي، لهذا لا شيء نحسد العالم عليه، لأن ما يقدم بوصفه ذروة النجاح هو في جوهره عجز عن التمييز بين الحركة والنمو، وبين ما نملكه وما ندرك قيمته فعلاً! ولكن التجربة الفردية تثبت قناعة مغايرة، ففي الإمارات لا شيء نحسد العالم عليه، لأننا نعيش تجربة مختلفة في معناها واتجاهها، تجربة جعلت من التنمية مشروع وعي، ومن الازدهار وسيلة لحماية الإنسان لا استنزافه، ففي الوقت الذي تتنازع فيه الأمم بين الوفرة والقلق، وبين الرفاه والانهيار القيمي، استطاعت دولتنا أن تبني نموذجاً متزناً يربط بين المادة والفكرة، والتقدم والهوية، والسرعة والبصيرة، نحن لا نحسد العالم، لأننا نعيش في دولة أدركت مبكراً أن الحضارة لا تقاس بناطحات السحاب بل بعمق قيمة الإنسان، وأن الاستقرار ليس ناتجاً عن الصدفة بل عن عقل جمعي يفكر ويخطط بوتيرة ديناميكية، فريق عمل وطني متكافئ، يتكامل فيه دور الفرد والأسرة والمؤسسة والقيادة، فيخططون معاً ويستشرفون المستقبل بروح الوطن، فحين تتحول الدولة إلى كيان مفكر يرى الإنسان غاية لا وسيلة، ويجعل التفكير جزءاً من بنيتها المؤسسية، تغدو التنمية فعلاً من الوعي لا من التكرار، ويصبح الازدهار استمراراً طبيعياً لسلام داخلي تأسس على رؤية واضحة، ومشروع أخلاقي وهوية ثابتة، لذلك لا نحسد العالم على شيء، لأننا نملك توازناً نادراً بين ما ننجز وما نؤمن به، بين الرفاه والمعنى الحقيقي للحياة، بين أن تكون إماراتياً وأن تكون أيضاً مواطناً ملهماً شاهداً على حضارة تُبنى بالوعي.