بهذه اللغة الواثقة الحاسمة اختتم صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، الدرس الرابع من دروس كتابه الفذّ «علّمتني الحياة» والذي حمل عنوان «لا تفعل شيئا... لا تكن شيئا» حيث قصّ على قُرّائه طرفًا من قصّة حصلت له مع أحد الشباب النشطاء المبدعين من الذين امتلأت أرواحهم بالحيويّة وحبّ العمل، وامتلك حماسة جعلته محل إعجاب صاحب السموّ حيث ضمّه إلى فريقه قبل أكثر من خمسة وعشرين عامًا، وأنّ هذا الشاب قد انطفأت حماسته في لحظة خاطفة، وخارتْ عزيمته دون سابق إنذار، وبلغ الأمر ذروته حين تقدّم بالاستقالة للخروج من فريق صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد الذي سأله عن السبب، وكان الجواب: كلام الناس، انتقاداتهم المستمرة وهجومهم على شخصه بشكل مستمر بحيث لم يعد قادرًا على الاحتمال، فآثر الانسحاب والانزواء وترك العمل العام.

وعلى المعهود من حكمة صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد لم يبادر إلى إعطاء أيّ جواب لهذا الشاب المُنطفئ الطموح بسبب كلام الناس، بل منحه فرصة كي يلتقط أنفاسه ثم اصطحبه بسيارته الخاصة وقال له: «أنا محمّد بن راشد وليّ عهد دبي، وينتقدني الناس في بعض مجالسهم، وأنا أعرفهم، هل نترك العمل؟» وفورًا فَهِمَ الشاب مقصود صاحب السموّ ورجع إلى عمله وظلّ إلى يوم الناس هذا ضمن فريق صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد الذي يُعدّ نموذجًا في العمل والإنجاز واستشراف المستقبل بكلّ كفاءة واقتدار.

انطلاقًا من هذه الحادثة الشخصية الخاصّة تحدّث صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد عن سُنّة راسخة من سُنَنِ الحياة خلاصتها: أنّ النّاس في كلّ زمان ومكان يوجّهون سهام النقد لكلّ شخصٍ مُبدعٍ يأتي بأفكار جديدة، ويقتحم دروبًا غير مسلوكة، ويفكّر بطريقة مختلفة، وأنّ القصة بحسب عبارة صاحب السموّ قديمة قِدم الحضارة البشرية وهي أنّ الناس أعداء ما يجهلون، ثمّ يستلهم صاحب السموّ مقولة لأحد الفلاسفة الرومانيين أكّد فيها أنّ قَدَر الحاكم الفاضل أن يفعل الخير وأن ينتقده الناس، وأنّ الفضيلة الحقيقية هي الاستمرار في العمل الصحيح دون انتظار التقدير، صعودًا إلى ابن خلدون فيلسوف العرب الأكبر الذي درس تحوّلات الحضارة وصعود المجتمعات وهبوطها، وأكّد أنّ رضا الناس غاية لا تُدرك، وذلك لتفاوتهم في العقول والأخلاق والمصالح.

بعد ذلك يُنبّه صاحب السموّ قارئي كلامه على أنّ الإنسان يجب عليه أن يتوقّع مثل هذه التحدّيات، لأنّ هذه هي طبيعة البشر: حصول المقاومة من أصحاب النظرة الضيّقة، ممن لا يملكون بصيرة النظر إلى المستقبل فضلًا عن التخطيط له، والذين هم في العادة أكثر الناس مستدلًّا بقوله تعالى في وصف الأكثرية من الناس بأنّ أكثرهم لا يعلمون، وأنّ أكثرهم لا يعقلون ولا يشكرون، فليس غريبًا أن يكون موقفهم من المصلحين على مرّ التاريخ هو هذا الموقف السلبي الذي يضع العقبات في الطريق، ويعمل على تثبيط الهمم، وتبديد الطاقة المندفعة نحو صناعة الحياة الرائعة، بدلًا من الركون إلى الكسل والروتين المُملّ الذي يقتل في الإنسان أشرف ما فيه من المواهب والملكات.

وقبل أن ينتقل صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد للحديث عن بعض المواقف الشخصية التي اعترضت طريقه في العمل العام، أكّد أنّ العمل العام يجلب بطبيعته النقد من الناس، وأنّ ذلك كان هو قَدَرَ الأنبياء والخلفاء والمصلحين من الّذين كانوا يريدون للناس الخير والسعادة، ومع ذلك تعرّضوا للنقد والأذى، ولم يدرك الناس قيمة ما جاؤوا به إلا بعد جهاد جهيد، مؤكِّدًا صاحب السموّ أنّ العمل العام يعني في جوهره تحمل النقد، وعدم التراجع عن طريق الصواب حين تظهر معالمه وتتضح مساراته.

وبخصوص التجربة الشخصية لصاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد في العمل العام، فقد ذكر غير واحد من المواقف الّتي تعرض فيها للنقد من الناس بعد اتخاذه بعض القرارات التي لم يستوعب الناس فائدتها ومداها المستقبلي في أول الأمر، فحين طوّر صاحب السموّ مناطق خاصة للتملّك الحرّ للأجانب، قيل في وصف هذا الإجراء: «لقد باع بلادنا» وحين خصّص بعض المناطق الحرة لكي تُحكم بقوانين دولية قيل: «لقد انتقص من سيادتنا»، وحين قرّر فتح ملكية بعض الشركات لغير أبناء البلد قال بعض الناس: «لقد أوقف أرزاقنا» وحين أطلق بعض المشاريع العمرانية الكبرى التي غيّرت وجه المدينة قال المنتقدون: «لقد حمّلنا ديونًا كثيرة» لكنّ دورة الأيام، والصبر على بعض الظروف الصعبة أثبتا سداد الرؤية لدى صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد، وأثبت النموذج الّذي خطّط له أنّه النموذج الأرقى الذي تتنافس الدول في سبيل تقليده وبلوغ مستواه، ولكن ذلك النجاح الكبير لم تتوقّف معه وتيرة النقد التي أصبح لها دافع جديد هو الغيرة والحسد وهي الصفة التي ابتلي بها بعض الناس ممن يكرهون وجود فكرة النجاح في هذه الحياة، فضلًا عن التميز والإبداع.

بعد أن استعرض صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد كلّ هذه المواقف تساءل قائلًا: هل نتوقّف؟ وكان الجواب من لدن صاحب السموّ: لا تتوقّف، لأنّك إذا سعيتَ لإرضاء الجميع خسرتَ نفسك وقناعاتك وطموحاتك.

وبنبرة القائد الجسور يخاطب صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد الإنسانَ في كل مكان وزمان قائلًا: «افعل الصواب، دَعْهُم يتحدثون، أما إذا أردتَ رضا الناس الكامل فلا تقلْ شيئًا، ولا تفعل شيئًا، ولا تكن شيئًا».

هذه هي مدرسة صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد: جرأة في اتخاذ القرار بعد إعطاء أيّ موضوع حقّه من الدراسة والتفكير، ثمّ انخراط في التنفيذ، ومتابعة حثيثة للعمل ومحاسبة للتقصير المقصود، ثم تقاسم النتائج الرائعة بين الجميع ليظلّ صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد قائدًا مُلهِمًا بقدر ما يتعلّم دروسه من الحياة بقدر ما يُعيد صياغة المعنى العميق من هذه الدروس في هذه الكتابات التي تضيء الطريق، وتُلهم الأجيال سداد الرؤية وسلامة التفكير.