يُقال إن الكذب ملح الرجال، لكن الحقيقة أن الكذب يبقى كذباً مهما تغيّرت ألوانه ومسمياته. ومع ذلك، شاعت عبارة «الكذبة البيضاء» لتصف تلك الأكاذيب الصغيرة التي تُقال بنية طيبة، إما لمجاملة، أو لتجنب إحراج، أو لدرء جرح المشاعر. مثل أن يخبر شخص صديقه أن مظهره أنيق رغم أن الحقيقة غير ذلك، أو أن يُقال للطفل إن الإبرة لن تؤلم، وهو يعلم أنها ستترك وخزة بسيطة.
البعض يرى أن الكذبة البيضاء جزء من الذكاء الاجتماعي، إذ تساعد على تلطيف العلاقات وتجنب النزاعات، خصوصاً في بيئات العمل والعلاقات العائلية. وهناك من يعتبرها نوعاً من اللباقة أو حتى الرحمة، لأنها تُجنّب الآخر صراحة جارحة قد تُفسد الود.
لكن الوجه الآخر لا يخلو من خطورة؛ فالتعوّد عليها قد يقود إلى توسع في التبرير حتى يصبح الكذب عادة، لا تقتصر على المجاملة، بل تمتد لمواقف أعمق، وقد تتحول النية الطيبة إلى سبب في فقدان الثقة إذا اكتُشف أن الحقيقة زُيّنت بكلام غير صادق. كما أن بعض الناس يفضلون الحقيقة مهما كانت قاسية، لأن الكذب – مهما كان صغيراً – يهز صورة الصدق في العلاقة.
ومن زاوية الفقه الإسلامي، فإن الأصل أن الكذب محرّم، لكن وردت استثناءات محدودة في السنة، مثل الإصلاح بين الناس، والخدعة في الحرب، وبعض ما يقع بين الزوجين لإدامة المودة. أما ما يُسمى اليوم بالكذبة البيضاء، فإن كانت مجرد مجاملة لا تُضيّع حقاً ولا تجلب ضرراً، فهي أقرب إلى التورية أو الكلام اللطيف المباح. أما إذا تجاوزت إلى تضليل أو خداع، فهي محرّمة ولا يغيّر اسمها من حقيقتها. ولهذا ينصح العلماء بأن يختار المسلم الصدق بعبارات رقيقة تحقق الغرض دون حاجة إلى الكذب، فيجمع بين الصراحة واللباقة.
شخصياً، أرى أن المعضلة ليست في الكذبة البيضاء ذاتها، بل في حدود استخدامها. فإذا كانت مجرد عبارة لطيفة لا يترتب عليها ضرر، فهي مقبولة في إطارها الضيق. أما حين تُستخدم لتغطية حقائق جوهرية أو لتبرير تقصير، فإنها تفقد لونها الأبيض وتتحول إلى خداع صريح.
إذاً، بين الحقيقة الجارحة والكذبة البيضاء، يبقى المعيار الأهم هو النية والنتيجة. فالصدق قيمة عليا، ويمكن أحياناً أن نختار كلماتنا بذكاء يحقق الحقيقة دون أن يجرح، فنستغني عن الحاجة إلى «تلوين» الكذب من الأساس.