مما لا شك فيه أن الأغنية الكويتية، سواء العاطفية منها أم الوطنية أم الدينية، ما كانت لتزدهر وتنتشر وتجذب الأنظار والأسماع على المستويات المحلية والخليجية والعربية لولا وقوف ثلة من الملحنين والشعراء الغنائيين خلفها من أبناء الكويت نفسها. وهؤلاء كثر تضيق الصفحات بأسمائهم.

فإذا ما أردنا التطرق إلى شعراء الكويت الغنائيين تحديداً فإننا نجد أمامنا الكثير ممن جادت قريحتهم بأعذب الكلمات والصور الشاعرية التي ترجمها الموسيقيون والمطربون إلى قطع فنية تسمو بالروح وترتقي بالعواطف وتعكس مكنونات القلوب الهائمة بالعشق والغرام، من أمثال: بدر الجاسر وسلطان عبدالله السلطان ويوسف ناصر وخليفة العبدالله الخليفة وخالد العياف ومحمد التنيب ويوسف الدوخي وجاسم شهاب ومحبوب سلطان وعبدالله الفضالة وعبد العزيز البصري وعلي الربعي ونايف المخيمر ووليد جعفر ومبارك الحديبي وبدر بورسلي وعبد اللطيف البناي ويوسف المنيّع وفايق عبد الجليل وعبد الأمير عيسى وماجد المهنا وأحمد الشرقاوي وسامي العلي وخالد البذال وعلي مساعد وعلي المعتوق وعبدالله العجيل وناصر السبيعي وعبدالله البراك وعبد الرحمن النجار وياسين الحساوي وطلال السعيد وأحمد مشاري العدواني.

وحسناً فعل الأديب الكويتي الأستاذ حمد الحمد حينما وثق الكلمة الكويتية المغناة في كتابه «موسوعة تراث الشعر الغنائي» البالغ عدد صفحاته 737 صفحة والمكون من أربعة فصول تحكي بالتفصيل إسهامات الفاعلين في حركة الشعر الغنائي في الكويت قديماً وحديثاً، منذ بداياتها وحتى مطلع الألفية، وتسلط الضوء على أسماء عدة لم تلق ما تستحقه من الاهتمام. ولا يفترض أن يطويها النسيان.

أحد هؤلاء هو الشاعر الغنائي والملحن والمهندس «محمد محروس السالم» أو «محمد المحروس»، الذي لعب دوراً مشهوداً مع رفاقه في تطوير الأغنية الكويتية ووضع قواعد راسخة لها، والذي سيكون محور حديثنا في هذه المادة، معتمدين في ما سنستعرضه عن حياته وآثاره ومشواره على العديد من المقابلات التي أجريت معه، وعلى شيء مما كتب عنه في الصحف والمؤلفات ذات الصلة بالشعر الغنائي.

ولد المحروس في فريج الجبلة من العاصمة، الكويت، في سنة 1940 ابناً لعائلة هاجرت إلى الكويت من نجد في أوائل القرن العشرين فسكنت «الجبلة» أولاً ثم انتقلت منها إلى المرقاب. وهذه العائلة قدمت للكويت شخصيات كثيرة عملت في تجارة الخشب وعمليات النقل ما بين الكويت وجاراتها وحملات الحج وحقول التربية والهندسة، وتصاهرت مع معظم الأسر الكويتية المعروفة.

وقد ورد في موقع تاريخ الكويت نقلاً عن موسوعة السعيدان أن العائلة معروفة عند بعض أهل الكويت باسم «المحروس السالم» وليس «السالم»، ومرد ذلك أن جدة للعائلة كانت تفقد جنينها قبل ولادته، وحلمت ذات مرة بأنها لو أطلقت على مولوها اسم «محروس»، فإن المولى عز وجل سيحرسه من كل شر وسوف يعيش.

درس المحروس المرحلة الابتدائية بمدرسة المرقاب الابتدائية للبنين، والمرحلة المتوسطة بمدرسة صلاح الدين، بينما أنهى المرحلة الثانوية بثانوية الشويخ في أواخر خمسينيات القرن العشرين. وعلى إثر ذلك حصل على بعثة حكومية لدراسة الهندسة المعمارية في الولايات المتحدة. وبالفعل سافر إلى هناك، لكنه عاد إلى الكويت في عام 1962 دون أن يكمل تعليمه الجامعي بسبب ظروف اجتماعية.

وفي عام 1970 قرر أن يكمل تعليمه الجامعي فالتحق بكلية التجارة في جامعة بيروت العربية، متخصصاً في إدارة الأعمال، لكن ظروفه الخاصة وقفت مرة أخرى حائلاً أمام تخرجه، فتوقف عن الدراسة وهو في السنة الرابعة النهائية.

حياته المهنية بدأت في عام 1962، بعد عودته القسرية من الولايات المتحدة، بالعمل في وزارة التربية والتعليم التي أمضى بها مدة شهرين فقط، انتقل بعدها للعمل بشركة الفنادق الكويتية التي عينته رئيساً للعلاقات العامة، لكنه بعد أربع سنوات من العمل لدى هذه الشركة آثر أن يعود للعمل بوزارة التربية والتعليم، ومنها انتقل إلى وزارة التعليم العالي ليشغل منصب رئيس قسم الابتعاث إلى الجامعات والكليات العربية.

الذين تعاملوا معه إبان شغله هذا المنصب أشادوا به كثيراً، وتذكروا كيف كان يسعى لتذليل العقبات أمام المبتعثين وإرشادهم وتلبية مطالبهم بأريحية وكرم. وظل صاحبنا في هذا المنصب إلى حين تقاعده في عام 1999.

أما حكايته مع الفن فقد بدأت منذ طفولته، حيث دأب وهو صغير على سماع الأغنيات الشعبية من خلال الفرق الشعبية ودور الطرب المنتشرة في الأحياء، وكان يقوم بحفظها وفحصها وترديدها. ومع مرور الوقت تكونت لديه موهبة كتابة الأغنيات وتلحينها، ثم راح يمارس هذه الهواية في حفلات السمر الطلابية ورحلات الأندية الصيفية وأنشطة فريق الكشافة المدرسية. ولكي يصقل هوايته، قرر في صباه أن يتعلم العزف على آلتي العود والإيقاع.

في عام 1960 كتب المحروس، وهو على مقاعد الدراسة الجامعية في الولايات المتحدة، أولى أغنياته العاطفية، وكانت باللهجة المصرية وتمنى حينها أن يغنيها مطربه المفضل فريد الأطرش، فأرسلها إلى إذاعة القاهرة ليلحنها الأطرش ويغنيها من الإذاعة أو في إحدى حفلاته الطربية. لم تكن تلك الأغنية سوى أغنية «بقى عايز تنساني» التي سطى عليها الشاعر الغنائي المصري عبد العزيز سلام ونسبها إلى نفسه بعد أن غيّر في النص الأصلي بضع كلمات فقط.

يقول المحروس، عن هذه الواقعة التي آلمته كثيراً،: إنه في ليلة زواجه عام 1963 سمع من الإذاعة كلمات أغنيته تشدو بها الفنانة سعاد محمد من ألحان فريد الأطرش، الأمر الذي دعاه إلى كتابة رسالة احتجاج بعثها للموسيقار الأطرش على عنوانه في القاهرة وباريس، لكن دون أن يتلقى جواباً.

ويضيف صاحبنا، إنه حرص على لقاء الأطرش حينما زار الكويت ليشتكي ويشرح له الموضوع، ووسط في ذلك الوكيل المساعد لشؤون التلفزيون المرحوم محمد السنعوسي، لكن الأطرش أخلى مسؤوليته وألقاها على عبد العزيز سلام.

وحينها سافر المحروس إلى القاهرة سعياً وراء لقاء سلام ظل الأخير يتهرب منه ويعطيه مواعيد ثم يلغيها، إلى أن قال له بصريح العبارة: «روح اشتكيني»، فعلم المحروس أنه لن يستطيع نيل حقوقه، ولا جدوى من رفع الموضوع إلى القضاء، خصوصاً وأنه كان لا يملك دليلاً قاطعاً على ملكيته لكلمات الأغنية.

وهكذا نسي المحروس الموضوع ولم يتسبب له في الإحباط، وتفرغ لوضع نصوص غنائية أخرى يطور بها الغناء الكويتي ويجدده، بدليل أنه حصل في عام 1966 على درجة تصنيف لافتة من مراقبة الموسيقى في إذاعة الكويت هي الدرجة «ألف» مع زملائه عبد المحسن الرفاعي وخالد العياف ومنصور الخرقاوي وغيرهم.

كانت البداية في عام 1964 الذي ذهب فيه إلى إذاعة الكويت ليقدم لها مجموعة من النصوص الغنائية، حيث شاءت الأقدار أن يلتقي هناك بالفنان عبد الرحمن البعيجان خارجاً من قسم الموسيقى، وعندما علم الأخير أن المحروس يرغب في تقديم أشعار غنائية من نظمه، أخذها منه ووعده خيراً.

وخلال يومين فقط كان صاحبنا يجلس أمام البعيجان مستمعاً إلى بعض نصوصه ملحنة، ومنها أغنية «خلك بعيد» التي غناها المطرب المعتزل حسين جاسم، وأغنية «تكون ظالم» التي غناها الصوت الجريح عبد الكريم عبد القادر، وأغنية «أخاف منك» التي سجلت بصوت المطربة الكبيرة فايزة أحمد.

لاحقاً، وخلال ربع قرن من الزمن، غنى من أشعاره أبرز نجوم الساحة الغنائية في الكويت والعالم العربي. فقد لحن الفنان الراحل محمود الكويتي وغنى من كلمات المحروس أغنية «انت الزباد والعنبر» وأغنية «يا وردة في البستان»، ولحن عوض الدوخي وغنى من كلماته أغنيات «الصديق الجار» و«بعد هيهات» و«تصور»، لكن أهمها وأكثرها شهرة هي أغنية «الغيرة سبايب» من ألحان نجيب رزق الله. وغنى يحيى أحمد من كلمات المحروس وألحان البعيجان أغنية «يا كويتنا يا حبيبة»، التي يقول مطلعها:

يا كويتنا يا حبيبه

يعل يدوم خيرك

وتدومي فرحانه

يا أرضنا الطيبة

من عندنا غيرك

في حضنه يرعانا

وغنى من كلماته أيضاً كل من المنولوجست محمد الويس (أغنية «يا طوير هندي»)، وأحمد عبد الكريم (أغنيات «وا حلالاه» و«إحنا وقمرنا»)، ومبارك المعتوق «ليش هالأسمر»، ونجاح سلام (أغنية «بدينا الهوى» من ألحان ليلى عبد العزيز)، ومصطفى أحمد (أغنية «حبينا يا بنية»)، وراشد سلطان (أغنية «جنيت على روحي»)، وصالح الحريبي (أغنية «قولوا لحبيبي» من ألحان عثمان السيد)، وعبد المحسن المهنا (أغنية «يا كويت» من ألحان سليمان الملا وأغنية «في أمان الله يا محبوبي» من ألحان يوسف المهنا)، وأحمد عبدالله (أغنية «بالهون» من ألحان غنام الديكان)، وفيصل عبدالله (أغنيات «حظي معاه» و«مقدر ومكتوب» من ألحانه)، ويحيى أحمد (أغنيات «صوتك يا حبيبي» و«قلبك ما طاوعني» من ألحان عثمان السيد)، وسعود الراشد (الأغنية الدينية «قلنا وقلنا» من ألحانه)، وخليفة بدر (أغنية «شفت الحلو صدفة»)، وعبد الحميد السيد (أغنية «يا مدلل على هونك»)، وغريد الشاطئ (أغنية «يا نعمة إلهية»)، وفرج الفرج (أغنية «يا نور الشمس»)، وعبد العزيز المسباح (أغنية «حرام عليك»).

في عام 1980، بدأ المحروس مشواره مع التلحين، وذلك حينما كتب ولحن أغنية «مبروك يا كويت»، وهي أغنية وطنية لمدرسة عين جالوت بأصوات الأطفال، ثم كتب ولحن أغنية عاطفية بعنوان «طلع قمر وحوله إنجومه» غناها المطرب حبيب فاضل. كما لحن وكتب للمطرب السعودي خالد عبد الرحمن أغنية «بدموع عيني».

كان آخر الأعمال التي كتبها هو أغنية «لا تظن» من لحن أحمد البابطين وغناء أحمد عبد الكريم، وطرحت في عقد السبعينيات من القرن الماضي. ومن بعدها توقف الرجل عن كتابة الأغاني بسبب خلافات حدثت بينه وبين الإذاعة حول تصنيف المؤلفين ودرجاتهم.

وللمحروس رأي في الكتابة للمسرح الغنائي نشرته جريدة «الجريدة» الكويتية (30/8/2011) في تحقيق عنه، حيث ذكر أن «مشكلة الكتابة للمسرح الغنائي ترجع إلى صعوبة الكتابة في هذا المجال، من حيث الحبكة الدرامية والمواقف المتباينة في العمل الواحد إلى جانب تعدد الصور الغنائية التي تتطلب من الفرد جهداً مضاعفاً، بينما نجد الاتجاه الأسهل لدى البعض الكتابة في مجال الأغنية العاطفية». وأضاف: «لدينا نخبة فنية قادرة على تقديم عمل مسرحي غنائي خصوصاً العنصر الرجالي في حين العنصر النسائي قليل على رغم قدرة النساء الفنية الفائقة».

ويصف المحروس الأغنية الناجحة بأنها «هي التي تعمر طويلاً وتعبر عن خلجات أكبر عدد ممكن من الناس، بعيداً عن الإسفاف والإفصاح أو الحديث المباشر، حيث يجب أن تكون الأغنية تلميحية وليست تصريحية، تحترم ذكاء المستمع وتعطيه الفرصة التي يتوق إليها لتخيل المعاني والحديث كيفما يشاء».

ويرى أنه إذا أردنا أن نرتقي بأغانينا فإن علينا «أن نبحث عن مواضيع تهم الناس، أي أن نغني عن آمالهم وطموحاتهم وآلامهم وجراحهم ومشكلاتهم الحياتية اليومية، في زمن كثرت فيه الآلام وتضخمت الجراح بأثواب متعددة الألوان والأشكال.. يجب أن يكون الشاعر الغنائي كالمرآة التي تعكس مشاعر المجتمع الذي يعيش فيه واهتماماته، وإذا لم تفعل الأغنية ذلك ستظل تدور في دائرتها المفرغة التي لن تقترب من الجمهور أبداً».

وأخيراً، فقد تمنى المحروس، في حوار أجرته معه صحيفة «الأنباء» الكويتية (3/10/2004)، أن تمنحه الكويت «جائزة الدولة التقديرية» قبل وفاته، قائلاً: «للأسف الشديد حتى هذه اللحظة لم أنل هذه الجائزة مع إنني استحقها ولكن ربما الدور يوصلني بعد ما أغادر هذه الحياة.

التكريم شيء جميل وأنا كرمتْ بمناسبات عدة، ولكن تكريمي بمنحي جائزة الدولة التقديرية له مذاق آخر لأنه تتويج من الدولة وتقدير لمسيرتي في الساحة الغنائية كشاعر ساهم بنجومية العديد في الساحة».