تحت عنوان «رحم الله أبي» كتب صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبيّ، رعاه الله، كلمة نابعة من أصفى منابع القلب، تلوح عليها ملامح الحنين لذلك الوالد الجليل الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، رحمه الله، المعلّم الأول، والأكبر والأبقى في ذاكرة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، فقد نهل في مدرسته المبكرة أعمق دروس الحياة، وصقله والده صقلاً كان هو الطريق الممهّد لكلّ ما سيتحمّله صاحب السمو من المسؤوليّات الجِسام الّتي تعني في جوهرها العميق النجاحَ في التعامل مع جميع أطياف الناس وفي مختلف المواقع، ومَنْ طالع ما كتبه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في سيرته الذاتية الأولى ( قصتي: 50 قصة في خمسين عاماً) فسيرى ذلك الحضور العميق للمغفور له الشيخ راشد بن سعيد في قلب صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد وعقله ووجدانه، كما يلاحظ قارئ تلك السيرة الجميلة مدى الرقة الأسلوبيّة واللغويّة حين يتحدّث صاحب السمو عن والديه على وجه الخصوص، فهو يكتب بلغة الحنين والرقّة والوفاء لتلك الوجوه الطيبة، فهو البارُّ بوالديه، الوفيّ لذكراهما الساكنة في أعماق قلبه، وهذا درسٌ أخلاقي بليغ التأثير نتعلّمه من كتابات صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد لا سيّما كتابه «علمتني الحياة» الذي وضع فيه خلاصة تجاربه في هذه الحياة التي عاشها بكلّ ما تعنيه كلمة العيش من المعاني المادية والمعنوية كما سبق بيانه في المقالة السابقة «هل جرّبتَ أن تعيش؟».

«رحم الله أبي: كلّما تفكّرتُ في حنكة أبي وحكمته وحياته وسيرته، أدركتُ كم تعلمتُ منه وكم تأثّرتُ بشخصيته» بهذه الكلمات الهادئة يستعيد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد صدى الأيام الخوالي حين يستذكر تلك الدروس التي تعلّمها من معلّمه ومُلهمه الأول والده الجليل الذي كان رجلاً من طرازٍ فريدٍ يتمتّع بالحكمة الّتي تضبط إيقاع الحياة، وبالحنكة التي تنظر في العواقب قبل التورّط في مجرياتها، فضلاً عن سيرته ونموذج عيشه الذي سيقصّ علينا صاحب السمو بعض ملامحه فيما نستقبل من أجزاء هذا الدرس في إشارةٍ إلى عمق التأثير الذي تركه هذا الوالد الجليل في وارث مجده وحكمته والمحافظ على صورته ناصعة في قلوب كل من عرف الشيخ راشد، رحمه الله ونوّر قبره وروحه.

«تعلّمتُ من أبي بساطة العيش وضبط النفس، وأن لا أنشغل بالتفاهات، ولا أصدّق ضعاف العقول والتافهين، تعلّمتُ منه الإصغاء، ومتى أشتدّ ومتى ألين» في هذا المقطع من كلام صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد يكشف بهذه اللغة الواضحة البسيطة عن دروس السّيادة الّتي تعلّمها من أخلاق والده كسلوكٍ كان يشاهده وليس مجرد نصائح كان يُسديها لأبنائه، فقد كان الشيخ راشد، رحمه الله، من رجال الكمال في أخلاقه، يعشق بساطة العيش التي هي ثمرة عفّة النفس وعدم التهالك على شهوات الدنيا، فإنّ عدو السيادة الأول هو اللهاث خلف الشهوات والبحث عن العيش الخاص الذي يخلق النفسية المتكبرة، ومتى كان الإنسان بهذه المنزلة الإنسانية الهادئة كان من أكثر الناس ضبطًا لنفسه، لأنّ ضبط النفس هو ثمرة الحلم، والحلم والكرم هما أساس السيادة منذ أن عرف النّاس معنى السّيادة، وهذا يعني بالضرورة أن لا يلتفت القائد إلى سفاسف الأمور وتوافه الأحداث والرجال بل يكون رجلاً يعرف ماذا يريد من هذه الحياة فيطلبه بأنبل طريق وأكرم خلق وسلوك.

ولأنّ أخلاق السادة بناءٌ متكامل لا يمكن تجزئته يواصل صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد الحديث عن مناقب أبيه وما تعلّمه من الدروس الأخلاقيّة على يديه من خلال الاقتداء بسلوكه الذي يؤثر فيه أعمق التأثير، فقد تعلّم منه خلق الاستماع والإصغاء إلى الناس بحيث يكون ذلك داعية إلى محبّتهم واحترامهم، وتعلّم منه سياسة الحزم والرحمة فيلين لهم ويخفض جناحه لضعيفهم في موطن اللين، ويشتدّ في موطن الشدّة مستلهماً مقولة الفاروق رضي الله عنه: لينٌ في غير ضعف، وشدّةٌ في غير عنف، مصحوباً ذلك كلّه بالوقار والهيبة التي كانت تفرض الاحترام على الجميع فضلاً عن التسامح مع الجاهل والتعامل بلطف ومودة لأنّ ذلك كلّه صادرٌ عن أخلاق رجلٍ كريم لا يُسارعُ إلى الغضب والانفعال بل يصبر ويحلم ويكظِمُ الغيظ، يدفعه إلى ذلك كلّه نيّة حسنة صالحة تحبّ الخير للناس وتترفّع عن الخديعة والمكر، مما أورثه رباطةَ جأشٍ وثباتَ قلب فهو رجلٌ لا يستخفّه الجزع، ولا يحرّكه الطمع، مقتصدٌ في أحكامه على الناس والمواقف، يضع الأمور في نصابها ولا يبخس أحداً حقّه كائناً من كان.

«تعلّمت من أبي أن أحبّ أهلي وأقربائي وإخواني، وأن أكون قريباً من أخواتي» وهذا السطر من كلام صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد فيه أبلغ الدّلالة على ما كان يتمتّع به والده المغفور له الشيخ راشد بن سعيد من أخلاقٍ كريمة تعود في جوهرها إلى حرصه الصادق على صلة الرّحم وبقاء الأسرة متماسكة، لأنّ ذلك هو طبعه الكريم في المقام الأول، ولأنّ تلاحم هذه الأسرة هو الضمانة الأكيدة لكي تبقى في مكانتها العالية بين الناس، فالأرحام الموصولة هي مصدر خير وبركة لا يختلف في ذلك اثنان.

وبخصوص أخلاق الحكم وإدارة الدولة، فقد تعلّم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد من والده الجليل أخلاق الصدق وحبّ العدل لأنّهما دعامتا كلّ مُلك مستقرٍ متين، فإذا أضيف إلى ذلك سعة الصدر وتقبُّل النقد والثقة بالنفس فقد اكتملت معالم السيادة في شخصية القائد، مع الجمع الذكيّ بين اللطف والحزم الذي يتطلّبه موقع المسؤولية مع جميع الناس.

ولأنّ القائد الذكي هو من كان ثلثاه فطنة وثلثه تغافلاً كما يقول الحكماء، فقد تعلّم صاحب السمو من والده خُلُق التغافل عن زلّات الناس وأخطائهم وعدم تصيّد ما يقع لهم من ذلك، وأن يكون لفت النظر والتنبيه باللطف أحياناً لا سيّما مع من تيقّن إخلاصه ومحبّته، فقد كان الشيخ راشد رجلَ عملٍ وإنجاز لا يستهويه المديح بل يعشق العمل والإنجاز، وينظر في الأمور من جميع الجهات، حتى إذا بان له صواب الرأي اتخذ قراره بكل شجاعة، وبخصوص علاقته مع بعض الشرائح الاجتماعية فقد كان الشيخ راشد، رحمه الله، يحبُّ علماء الدين ويُكرِمُ وفادتهم ولكنّه كان يمتلك بصيرة في قلبه يميّز بها بين أصنافهم، كما كان يحبّ مجالسة التجار وأهل السوق، ويستشرف آفاق الشباب ويدعم توجهاتهم وهو ما نراه ماثلاً للعيان في أخلاق صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد الذي اقتبس هذه الأخلاق الطيبة من مشكاة أبيه، رحمه الله.

كثيرةٌ هي الدروس التي تعلّمها صاحب السمو من والده الجليل، ولا يسمح المقام بذكرها على وجه الاستقصاء ولكن لا بدّ من الإشارة إلى ما ذكره صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد من محبة الشيخ راشد لأصدقائه واحترامه لهم، ولكنّ ذلك لم يكن يعني أيّ امتياز لهم في العمل العام، بل كان حريصاً على وجود مسافة بينه وبينهم تسمح له بالمحاسبة ضمن أجواء الثقة والمحبة والاحترام.

ومن نظر في ملامح الشيخ راشد، رحمه الله، رأى رجلاً مصقولاً كالسيف، وهو ما عبّر عنه صاحب السمو حين ختم هذا الدرس بالإشارة إلى أنّ والده كان عفيف المطعم قليل الاهتمام بهذه الأمور، مقتصداً في الكلام، بعيداً عن التباهي بأبّهة المُلك وفخامة القصور، ميّالاً للبساطة في كل شيء ليختم صاحب السمو هذا الدرس بدعاء نابع من حنايا القلب كرّر فيه الرّحمة على روح والده الطيّبة قائلاً: «رحم الله أبي، رحم الله أبي» آمين آمين.