العمارة لا صوت لها، إلا أنها تحادثنا بطرق خفية، في سكون الأفنية المظللة، وفي إيقاع الأعمدة المتناغم، وفي شعاع الضوء وهو يتسلل لينسج مع المكان حواراً أبدياً. العمارة ليست مجرد هياكل تحيط بنا، بل هي لغة تعيد صياغة أحاسيسنا، وتوجه أفكارنا، وتؤثر حتى في استجابات أجسادنا.

وحين نخطو إلى قاعة تعانق أعمدتها السماء، يتملكنا شعور فطري مهيب، رهبة توقظ الحواس، ووعي يشف عن إدراك أعمق، وارتقاء هادئ يمس الروح.

تبين أبحاث علم الجماليات العصبية – ومنها ما نشره «مركز التصميم الواعي» عام 2020 – سر هذه التجربة الإنسانية العميقة، فحين نلج فضاءات شاهقة، تنشط في أدمغتنا مناطق ترتبط بالرهبة والإلهام، ويتحرر الدوبامين ليوقظ فضولنا ويغذي توقنا للاكتشاف.

وفي المقابل تهمس الأرض إلينا بلغة أكثر خفاء من خلال الملمس تحت أقدامنا، ودفء المواد الطبيعية التي تحيط بنا.

وقد أثبتت دراسة أجراها ساكوراغاوا وزملاؤه في «معهد أبحاث الغابات ومنتجاتها» في اليابان عام 2005، أن مجرّد ملامسة الأسطح الطبيعية الناعمة يهدئ الجهاز العصبي، ويخفف التوتر، ويزرع إحساساً عميقاً بالسكينة.

تنسج هذه الإشارات، مجتمعة، سيمفونية خفية؛ فارتفاع سقف المكان يوقظ الفكر ويحلق به نحو آفاق أرحب، فيما يحتضن دفء الملمس الجسد ليغمره بالطمأنينة.

وهكذا تتشكل تجربة إنسانية نادرة، تجمع بين المهابة والترحاب. في جناح دولة الإمارات بـ«إكسبو 2025 أوساكا»، تتحول العمارة إلى لغة نابضة وحوار حي مع الجسد والعقل والوجدان، فلا تبقى مجرد جدران وأعمدة صامتة، بل تصبح لغتنا التي نعبر بها عن المعنى والغاية، ففي كل تفصيلة حكاية، وفي كل فضاء تجربة تستدعي خوضها بكامل الحواس، لا الاكتفاء بمشاهدتها وحسب.

تبدأ الحكاية من شجرة، فقد كانت النخلة على مدار أجيال رمزاً للحياة الإماراتية، تمنح المأوى والقوت والقوة.

واليوم، في أوساكا، تُستعاد صورتها في هيئة تسعين عموداً شامخاً، صُنع كل واحد منها من عصب جريدها، وترتفع حتى ستة عشر متراً لتنسج مظلة وارفة تستقبل الزوار بإحساس مهيب.

هذه المظلة ليست مجرد بناء من أعمدة وجريد؛ إنها لغة معمارية يتجسد فيها كرم الضيافة الإماراتية قيمة حية. فحين نسير تحتها لا نمر بمكان فحسب، بل نعبر إلى معنى؛ ندخل إلى روح دولة الإمارات التي تفتح ذراعيها للجميع. وكل عمود يقف متفرداً، كما هو حال كل إنسان يخطو بين صفوفها.

حين تخطو إلى جناح دولة الإمارات في «إكسبو 2025 أوساكا»، تدرك سريعاً أنك لست أمام فضاء معماري عادي، بل في قلب رحلة تحاور الروح بقدر ما تحيط بالجسد، ففي قسم «جذور وطن»، يستعيد الزائر القيم التي تأسست عليها دولة الإمارات من وحدة، وعزيمة وطموح لا ينضب.

وفي قسم «مستكشفو الفضاء» نرتحل مع الحلم الذي بدأ بالنظر إلى سماء الصحراء، ليصبح اليوم انطلاقة لطموح نحو استكشاف الفضاء، بينما يكشف قسم «محفّزو الرعاية الصحية» كيف يمكن للتعاطف، حين يقترن بالابتكار، أن يُحدث تحولاً عميقاً في حياة الإنسان، أما قسم «أمناء الاستدامة» فيذكرنا بمسؤوليتنا المشتركة لصون وحماية كل ما هو هش وثمين فوق هذه الأرض.

وأخيراً يأتي قسم «الإرث المنسوج» ليجمع هذه الخيوط كلها في سردية تؤكد بأن قصة وطن واحد ما هي إلا فصل من حكاية الإنسانية كلها. إن هذه الأقسام ليست مجرد معارض للمعرفة، بل محطات حوار مع القيم، يخرج منها الزائر حاملاً انطباعاً لا عن معروضات، بل عن رؤية مختلفة للعالم.

حتى اختيارات المواد هنا تنطق برمزيتها الخاصة. فمادة «ديت كريت» المصنوعة من نوى التمر المطحون، ومادة «ديت فورم» المستخلصة من مخلفات جريد النخيل، لا تُقدَّمان كابتكارات تقنية إماراتية فحسب، بل كشواهد حية على أن ما يلقى جانباً يمكن أن يعاد استخدامه من جديد ليشكل لمسات معمارية غاية في الجمال.

إن الجناح يبعث برسالة مهمة مفادها أن التقدم لا يتحقق عبر الاستهلاك غير المحدود للموارد، بل عبر استخدامها بكفاءة ووعي. وما إن تلامس يداك هذه المواد حتى تدرك أن العمارة لغة تجمع بين الحس بالمسؤولية والبراعة الفنية.

ومع كل ما يحمله الجناح من تفاصيل معمارية مبهرة يبقى الأثر الحقيقي في القلب، لا في العين، فما يعلق في الذاكرة ليس شكل الأعمدة، بل رهبتها وهي تشق طريقها بثقة نحو السماء. ليس هندسة الأفنية، بل سكينتها التي تحتضن الزائر بظلالها الوادعة. ولا حتى المواد، بل عبير النخيل وهو ينشر عبقه في أرجاء المكان كذكرى. إنها تجربة تحَس قبل أن تُفهَم، وتُعاش قبل أن تُروى. فهنا، لا تكتفي العمارة بسرد الحكايات بل تمكّن الناس من عيشها والشعور بها.

قيم الإمارات

مثلما تمنح الأعمدة للجناح هيبته، يمنحه سفراؤنا الشباب روحه ونبضه. فهم انعكاس جلي لقصة دولة الإمارات، يجسدون قيمها الأصيلة في كل تفاعل وكلمة وابتسامة. لكثير من الزوار، هم الواجهة الأولى للجناح، وغالباً ما يكونون الجزء الأكثر حضوراً في الذاكرة بعد الرحلة. بدفئهم وعفويتهم وصدق حضورهم تتحول الجدران إلى حكايات، والمساحات إلى روابط إنسانية.

ومع مرور الأيام تتكون روابط حقيقية مع الزائرين، خاصة العائلات التي تعود مراراً، لا لتعيد التجربة فقط بل لتلتقي بأصدقاء صاروا جزءاً من رحلتهم، رحلة أوسع من الجناح، وأقرب من القلب.

هذا الجناح ليس مجرد حدث عابر، بل فصل متواصل من حوار ممتد عبر الزمن. حين شاركت أبوظبي للمرة الأولى في إكسبو أوساكا عام 1970 كانت دولة الإمارات أمة فتية تحمل رؤية جريئة نحو المستقبل، وعندما استضافت دبي معرض «إكسبو 2020»، فتحت ذراعيها للعالم، وأرست معايير جديدة لما يمكن أن يكون عليه الجناح الوطني بما قدمته من إلهام وتجربة فريدة.

واليوم يأتي حضور دولة الإمارات في أوساكا امتداداً لذلك الإرث، إرث يترجمه وضوح الغاية لا بهرجة المشهد، فكل عمود شامخ وكل خيط منسوج بدقة، يبعث برسالة عميقة مفادها أن التراث والابتكار قادران على التعايش بتناغم، وأن الغد الأجمل يُولد من أرضية تجمع بينهما معاً. العالم لا يحتاج إلى مزيد من المباني، بل إلى أماكن تحمل معنى، وهياكل تلهم التواصل، ومساحات توقظ فينا روح المسؤولية.

وعلى العمارة أن تصغي لهذا النداء وتستجيب له. ويجسّد جناح دولة الإمارات أحد المسارات الممكنة للمستقبل؛ إذ يحول جريد النخيل إلى أشكال شامخة، ويحول المخلفات إلى ابتكارات حية، ويحول التعاون إلى فن نابض بالحياة. فالعمارة، في أبهى صورها، لا تُقاس بالجدران التي تشيدها، بل بالآفاق الواعدة التي تفتحها، وبالمستقبل الذي تجعل تحقيقه ممكناً.

أن تخطو داخل جناح دولة الإمارات، هو أن تلامس نبض وطن، هو أن تستشعر عمق الجذور وعلو الخيال، هو أن ترى العمارة وقد تحولت من صمت جامد إلى لغة تنطق، وتقص حكاية تُروى للعالم.

نائبة المفوض العام والمديرة الإبداعية لجناح دولة الإمارات في «إكسبو 2025 أوساكا»