كثيرة هي الكتابات الأمريكية التي باتت تؤكد أن أمريكا تعيش حقبة مكارثية جديدة. وهناك بالفعل أوجه شبه بين الحقبتين، لكن ثمة اختلافات جوهرية تجعل المرحلة الحالية أكثر خطورة. والمكارثية مرحلة مريرة عاشتها أمريكا في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، وحملت اسم السناتور جوزيف مكارثي، الذي تبنى حملة تفتيش شرسة في ضمائر الأمريكيين، كانت الولايات المتحدة وقتها في أوج الحرب الباردة والعداء للشيوعية، فشكّل السناتور مكارثي لجنة بالكونغرس تفتش في الضمائر عمن «يدين بالولاء» للشيوعية، أو حتى «يتعاطف» معها.

واللجنة لم تلاحق فقط السياسيين والعاملين بالمؤسسات الحكومية وإنما استهدفت أيضاً المفكرين والفنانين والأدباء والإعلاميين وأساتذة الجامعات وطلابها، وكانت النتيجة طرد المئات من وظائفهم، ووضع المئات غيرهم في قوائم سوداء لفرض حظر على تشغيلهم.

وأوجه الشبه مع ما يجري اليوم تجلت أكثر من أي وقت مضى، فور اغتيال الناشط اليميني تشارلي كيرك في وضح النهار، وهو يخاطب مئات الطلاب بولاية يوتا الأمريكية، وكيرك الذي يمثل تيار القومية المسيحية يحظى بشعبية جارفة لدى شباب اليمين، وله الفضل في تعبئتهم للتصويت لترامب، واغتيال كيرك لم يمثل صدمة فقط لمحبيه في أوساط اليمين وإنما لخصومه السياسيين أيضاً، الذين كرهوا خطابه السياسي ولكن فوجئوا باغتياله وهو في مطلع الثلاثينيات. وقد كشفت تعليقات رموز الطرفين عن حال أمة انعطف استقطابها لمنحنى مخيف.

فبينما راوحت مواقف اليمين بين الغضب والرغبة في الانتقام جاءت مواقف اليسار بتنويعاته لتراوح بين إدانة الاغتيال وبين التذكير بمواقف كيرك الداعمة لحمل السلاح، وعدائه للمهاجرين والإسلام واليسار، لكن أي انتقاد لمواقف كيرك قوبل بعاصفة من التهديدات والإجراءات التي أعادت المكارثية للأذهان.

فعلى وسائل التواصل الاجتماعي، كتب -مثلاً- النائب الجمهوري كلاي هيجينز أنه سيستخدم كل «صلاحيات الكونغرس»، كما فعل مكارثي، وكل نفوذه لدى مؤسسات التواصل الاجتماعي «لفرض حظر فوري ومدى الحياة» على كل من نطق بانتقاد كيرك أو «قلل من شأن جريمة اغتياله»، وتعهد بإعادة النظر في الرخص الممنوحة للمؤسسات الإعلامية، وبعد أن قال إن هؤلاء ينبغي وضعهم بالقوائم السوداء وطردهم من الوظائف والجامعات، وصفهم بأنهم «حيوانات مريضة». ومفردات الخطاب التي استخدمها هيجينز تنزع الإنسانية عن الخصوم وتعتبرهم «أعداء الداخل»، وهي بالضبط مفردات المرحلة المكارثية.

وما هي إلا ساعات حتى لحقت إدارة ترامب بالنائب هيجينز بتهديدات إضافية، فرئيس لجنة الاتصالات الفيدرالية المنظمة لعمل وسائل الإعلام، بريندن كار، وجه تهديدات علنية للقنوات التليفزيونية يحذرها من توجيه أي انتقادات لمواقف كيرك، بل أشار بالاسم للإعلامي المعروف جيمي كيميل، فما كان من محطة «إيه بي سي» إلا أن قامت بطرده فوراً، وهو القرار الذي احتفى به ترامب نفسه مثنياً على كار.

وبغض النظر عن عودة كيميل لوظيفته لاحقاً، تظل إجراءات ترامب المتكررة منذ توليه والتي لم تكن لحظة اغتيال كيري إلا أحد تجلياتها، هي التي تدفع المراقبين للقول إن أمريكا كان بإمكانها تجنب العودة «للمكارثية» لولا تولي ترامب، لكن هذا الطرح يغض الطرف عن فارق رئيسي بين مرحلة ترامب وزمن المكارثية، فإجراءات الكونغرس والإدارة، اليوم، كانت مستحيلة لولا التراكم المؤسسي الذي حدث منذ عهد كلينتون، وقتها صدرت قوانين بموافقة الكونغرس الجمهوري وتوقيع الرئيس الديمقراطي، سمحت لعدد محدود من الأفراد بامتلاك عدد لا نهائي من وسائل الإعلام، حتى بات بعضهم يمتلك عشرات المحطات التليفزيونية ومئات المحطات الإذاعية، وتلك القوانين مسؤولة جزئياً عن تكريس الاستقطاب، إذ انخفضت مساحة اختلاف الرؤى التي يعرضها الإعلام بوسائله كافة، وبات المواطن الذي يتابعها إزاء إعلام له طابع أيديولوجي بامتياز ينعكس على نوعية الضيوف المسموح باستضافتهم، بل وحتى في كيفية عرض الأخبار أو تجاهلها أصلاً. وفي مثل تلك الأجواء صار يسهل، أكثر من أي وقت مضى، تعبئة الجمهور ضد «عدو الداخل».

لذلك كله فإن ما يجري اليوم، في تقديري، أكثر خطورة بكثير مما جرى في مرحلة المكارثية، لأنه حدث عبر تراكم هيكلي امتد لأكثر من ثلاثة عقود، الأمر الذي يعني أن تفكيكه على غرار تعافي أمريكا من المكارثية بعد سنوات قليلة لن يكون سهلاً، كما يتصور البعض.