الحكاية الشعبية أو ما نسميه في تراثنا الإماراتي «الخراريف» هي واحدة من أعمق أشكال التعبير الثقافي، التي أبدعتها المجتمعات لحفظ ذاكرتها، ونقل قيمها عبر الأجيال، ففي تلك القصص الشفاهية التي كانت تروى على ضوء القمر أو عند موقد النار تختبئ الحكمة الشعبية وتجارب الحياة وتصورات الإنسان عن الخير والشر، عن البطولة والمخاطر، وعن الأمل الذي يرافق كل رحلة في هذه الحياة.
بالطبع فإن «ملتقى الشارقة الدولي للراوي»، الذي اختتم دورته الخامسة والعشرين، الأسبوع الماضي، وأقيم تحت رعاية صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، وحمل هذا العام عنوان «حكايات الرحالة». يعد واحداً من أهم المناسبات احتفاء بذاكرة الشعوب، فقد شهد حضور أكثر من 37 دولة، ومشاركة 120 راوياً ومفكراً وأكاديمياً جعل من الشارقة هذا الأسبوع عاصمة للتراث الشفاهي، وامتزجت الحكايات المحلية مع العالمية في نسيج إنساني واحد.
وبالنسبة لي دائماً أجد أن ما يقوم به الدكتور عبدالعزيز المسلم ومعهد الشارقة للتراث يمثل تجربة استثنائية في إعادة إحياء هذا الموروث العريق، فهو رئيس معهد الشارقة للتراث، الذي أسس ملتقى الراوي، وبصمته واضحة في نجاح الملتقى، وهو أيضاً الذي قام خلال سنوات طويلة بجمع خراريف إماراتية تراثية من صدور الرواة، وأعاد صياغة بعضها، وأبدع باقة مميزة منها، ووضعها في كتب ومشاريع، وفتح أمام الأطفال واليافعين نافذة، يطلون منها على عالم تراثهم بأسلوب جديد، يزاوج بين المتعة والمعرفة، مثل «أم الدويس»، و«بوعبعير»، و«النداهة» وغيرها الكثير، فعمل ضمن رؤية عملية إبداعية تقوم على: «لا نترك الحكاية القديمة في الماضي، بل نمنحها حياة جديدة، بحيث تصير صديقة للجيل الحديث»، وهذه المشاريع هي مدرسة قيمية وجمالية وفكرية ومورد معرفي وإبداعي يلهم المستقبل.
إن ملتقى الراوي، بما قدمه من ندوات وورش علمية ومعارض هو مختبر حي لتجديد علاقتنا بالتراث، ولتأكيد أن الثقافة الشعبية قادرة على أن تكون مصدر إلهام للأدب والفن، وللسينما والمسرح، بل وحتى لمشاريع الذكاء الاصطناعي، التي يمكن أن تتعلم من الحكايات الشعبية قيم الحكمة والإبداع.
الخراريف، بهذا المعنى، تمثل أحد أرقى أشكال الذكاء الجمعي، فهي تربط بين العقل والخيال، بين الماضي والمستقبل، بين التجربة الفردية والوعي الجماعي، وما أحوجنا اليوم إلى هذا النوع من الجسور الثقافية، التي تحمي الهوية من الذوبان في عصر السرعة والتقنية.
أرى أن أهم ما يجب التركيز عليه اليوم هو التوثيق الميداني للحكايات، فجميع كبار السن في الإمارات ما زالوا يحملون في صدورهم عشرات القصص التي لم تُكتب بعد، وإذا لم نسارع إلى جمعها بأسلوب علمي منهجي فإننا سنفقدها إلى الأبد. هنا يأتي دور المؤسسات الثقافية لتسجيل الروايات الشفاهية، وإدخالها في السجل الوطني والموسوعات، التي يمكنها أن تحفظ هذا الموروث وتقدمه للأجيال القادمة.
المسؤولية لا تقع على المؤسسات وحدها إنما هي مهمة المجتمع كله: المدارس التي يمكن أن تُدخل الخراريف ضمن مناهجها، الجامعات التي تستطيع أن تشجع طلابها على جمع الروايات من أجدادهم، الإعلام الذي يمكن أن يخصص برامج ومساحات لإحياء هذا التراث، وحتى الأسر التي تستطيع أن تفتح مساحات الحوار مع كبار السن، فتستمع منهم، وتدوّن وتشارك، فالحكاية الشعبية في جوهرها هي عمل جماعي، ينهض به المجتمع بأكمله.
وعندما نتأمل التجديد الذي يشهده هذا الموروث، مثل مشروع «الخراريف برؤية جديدة»، الذي قدم حكايات إماراتية بعيون فنانين مغاربة وإيطاليين وكوريين، ندرك أن التراث ليس جامداً، بل كائن حي يتطور. الخراريف يمكن أن تُعاد صياغتها، أن تُرسم شخصياتها برؤى جديدة، أن تتحول إلى أفلام ومسرحيات وروايات مصورة. المهم أن تظل الجذور ثابتة، وأن يبقى هذا الخيال الشعبي جزءاً من وعينا وهويتنا.
الخراريف هي ذاكرة وطن، وهوية مجتمع، ولغة وجدانية تحفظ تاريخنا وتلهم مستقبلنا، ومن هنا فإن الاهتمام بجمعها وتوثيقها وتطويرها ليس رفاهية ثقافية، بل مسؤولية تاريخية تقع على عاتق المؤسسات والمجتمع والأفراد معاً.
وعندما ننظر إلى المستقبل فإن هذا الجهد المتكامل بين المؤسسات مثل وزارة الثقافة ومعهد الشارقة للتراث، وكل المؤسسات المعنية وبين الأفراد من رواة وباحثين ومبدعين، يمثل درعاً للهوية ووقوداً للإبداع، وحين تلتقي الحكمة الشعبية مع تقنيات الذكاء الاصطناعي فإننا نصنع حكاية جديدة لا تقتصر على الماضي بل تمتد إلى الغد، لتقول للأجيال القادمة: هذا تراثكم، وهذه قصصكم، فاحملوها بوعي، وامنحوها حياة متجددة.