لا تقتصر وظائف وقيمة طعامنا على كونه يلبي حاجة فيزيولوجية ويمِدُ أجسادنا بالطاقة اللازمة. بل إنه يحمل في أبعاده وطقوسه وطبيعة مكوناته، مجموعة مضامين ثقافية وحياتية وجمالية ويحفل بمفردات تراثية جميلة وبأنماط وسمات التواصل الاجتماعي والارتباط بالمكان.

وبطبيعة الحال، فإن أية وصفة طهو أو تركيبة طعام تقليدي ما، سنجدها، عندما نحلّل مكنونها وندرس جوانبها، غنية بقصص الناس وبتأثيرات جذورهم وسير تطورهم، إلى جانب أنها تمثل أيضاً، بطريقة أو بأخرى، جزءاً من ماهيات علاقتهم بالبيئة والمجتمع من حولهم، ودالاً على كيفيات تفاعلهم الحياتي.

وانطلاقاً من هذا الأساس، لا جدال في أن مكونات موائد الشعوب وطرق الطهو، تعكس وتبرهن مستويات ذائقتها الفنية وأشكال وبنى معارفها ومفاهيمها الثقافية، ذلك علاوة على مدى تماسك ولحمة أفراد المجتمع وأسره. وقد كان للعرب في ميادين رقي ثقافة الطعام وذوائقه وأساليبه، قصب الريادة والسبق، حيث برزت وتصدرت فنونهم الرفيعة في عوالم الطهو وتقاليده والنظرة إليه.

وشاهدنا ههنا إبداعهم بعض أوائل مراجع وكتب الطبخ في تاريخ البشرية. فعلى سبيل المثال، سجّل ووثّق لنا كتاب «الطبيخ»، الذي جُمع في بغداد في القرن العاشر، أنواع الأطباق في زمن الخلافة العباسية، بدءاً من لحم الضأن المُتبل، ووصولاً إلى المعجنات وصنوف الحلويات.

وحين نطالع وصفات هذا الكتاب، تذهلنا تفاصيله الممتعة، إذ يتجلى كما جرعات ثقافية شيقة تتشكل وتتجسد مكتوبة على الورق وهي تنبض بقيم التنوع والألفة والتناغم بين مكونات المجتمع والشعوب كافّة، ذلك بموازاة اشتمالها على معاني ورمزيات عديدة، منها: مكانة وأهمية العائلة وقيم الاحترام المجتمعية والمحبة والتعاضد.

لا شك أن هذه الفنون الحياتية، فنون الطبخ، والتي تعد صورة عن ثقافة المجتمع، تلعب دوراً جوهرياً في صون عاداتنا وتقاليدنا وقيمنا وشتى ملامح الجمال في حياتنا الأسرية والمجتمعية العامة، وينطوي فيها الكثير من المّثل والمبادئ والأعراف.

ولذا فإننا معنيون بأن نحفظها ونصونها في بيوتنا ولمّاتنا وأنماط عيشنا لتبقى نهجاً وعادة دائمين، بحيث نقبل عليها ونمارسها بحب وشغف، فعندما نطبخ في منازلنا، اليوم، ونصرّ على مواصلة هذا تقاليد لمّاتنا في تناول الطعام والاختفاء بتقاليد وثقافة طهوه المتوارثة، والأكل معاً، فإننا نسهم في الحفاظ على ذاكرة مجتمعنا وحضاراتنا وهوياتنا، ونعزز التكاتف والتقارب والمودة في أسرنا ومجتمعاتنا.

لقد تمكن العرب من ترك بصمة ملهمة في ميادين فنون الطهو وثقافة الطعام. إن كتبهم في الحقل عمّت وانتشرت وألهمت وأثّرت حضارات المعمورة، منذ الأمد، فلم تبقَّ محصورة في بغداد، حاضرة العباسيين، بل انتشرت، على مدار السنوات والقرون.. وعبر التجارة والسفر والتبادل الثقافي، على امتداد دول وحواضر البحر الأبيض المتوسط، ومن ثم أوروبا التي ألهمتها كتب الطبخ العربية وأمدتها بالمعرفة والخبرة في تكوين ما أصبح يسمى «المطبخ الغربي». وفي الأندلس (إسبانيا الإسلامية)، جلب الحكام العرب والأمازيغ معهم، ثقافة طعام أذهلت الناس وارتقت بذوائقهم في أساليب الطهو وفنون الموائد.

كذلك انتشرت مخطوطات مستوحاة من كتاب «الطبيخ» في قرطبة وغرناطة وإشبيلية، مزجت نصوصها بين التقاليد العربية والشمال أفريقية والإيبيرية، مقدمة لأوروبا مكونات لذيذة مدهشة، من بينها: الأرز والحمضيات والسكر والزعفران واللوز.

ومن المؤكد أنه لولا هذا التبادل، لما وُجدت أطباق أوروبية أساسية شهيرة، مثل: الباييلا الإسبانية والريزوتو الإيطالي، وحتى المرزبانية بأشكالها المألوفة اليوم. وفي حلول القرنين، الثاني عشر والثالث عشر، نقلت ترجمات النصوص العربية في صقلية وجنوب إيطاليا المعرفة بفنون الزراعة وبأنواع التوابل وبطرق الطهي، إلى أوروبا اللاتينية.

فأغنت وحفّزت كتب وفنون الطبخ في عصر النهضة، ومن الشواهد ههنا: كتب مارتينو دا كومو (القرن الخامس عشر) وبارتولوميو سكابي (القرن السادس عشر)، اللذان يُوصفان بأنهما أبوا المطبخ الإيطالي، إذ نهلا من كتب الطهو العربية إرشادات ومعايير وأساليب حافلة بالتوابل وقائمة على التقنيات التي ازدهرت في العالم الإسلامي. واللافت أيضاً، أنه لم يكن هذا التبادل من جانب واحد، إذ تبنت البلدان العربية، لاحقاً، فنون الأطباق الأوروبية وكيّفتها مع ثقافات المائدة لديها.

إن العبرة والقاعدة اللتين يجدر أن نستخلصهما ونستلهمها في هذا القبيل، أن ثقافة طهي الطعام وفنونه ومكوناته وطقوسه، ليست مجرد نصوص تحفظها بطون الكتب أو مرويات وسيراً نرددها، وإنما هي مفردات حياتية يجب أن تبقى حيّة نابضة في ثنايا يومياتنا، لأنها حبلى بالجماليات والقيم المجتمعية، فعندما دوّن طهاة وعلماء بغداد الوصفات في كتاب «الطبيخ»، لم يكونوا يُطعمون الخلفاء فحسب، بل كانوا يضعون أسساً لتراث طهي عالمي لا يزال يُشكل أسلوبنا الغذائي حتى اليوم. لذا، فإننا، وحين نتحدث عن الطبخ المنزلي كامتداد لتلك الركائز والثقافة، فإننا نُردد صدى ممارسات، ونهوج ربطت المطابخ عبر القارات والقرون ونسجت تقارب الحضارات. إن الروائح المنبعثة من مطبخ العائلة هي جزء من تلك الحكاية الممتدة الندية، والتي بدأت في بغداد العباسية، فازدهرت في إسبانيا الأندلسية، ومن ثم تركت آثارها على إيطاليا في عصر النهضة.

لطالما كان الطعام أكثر من مجرد غذاء. إنه ذكرى وثقافة وتقاليد وحب يُقدم على طبق. وهو يرتبط في منطقتنا العربية، ضمن هذا العالم الفسيح المتشابك اللاهث، بشكل وثيق، بالمناسبات الخاصة، مثل: الأعياد، شهر رمضان المبارك، حفلات الزفاف، التجمعات العائلية. وتتشارك العائلات حول مائدة الطعام في هذي المناسبات، أكثر من مجرد وجبة، إذ تتبادل القصص والضحكات والأخبار وإيقاع الحياة اليومية اللطيف. وهكذا، فعندما يُحضّر الطعام في المنزل، سيضيف قيمة وجمالية أخريين، جوهريتين، إلى تلك الأجواء، إذ سنختبر ونتلذذ في طياته حينها، جملة قيم ومعانٍ فريدة ترسم لوحاتها جدة تطحن بهاراتها يدوياً وأم تضيف ذلك «المكوّن السري» الذي لا يعرفه سواها، وطفل يتعلم، بفخرٍ، قلي بيضة أو تقليب قدرٍ لأول مرة. إنها، فعلياً، دروس في التراث والجمال، لا مجرد أفعال طبخ. إن الوصفات ليست مجرد تعليمات؛ بل هي إرثٌ يُتناقل جيلاً بعد آخر، مُشبع بمضامين الذاكرة والهوية. ولكن كيف يمكن أن نقبل بأن يتغير ويُدمر هذا في عالمنا الحالي سريع الخطى، والذي تُسيطر عليه الهواتف المتحركة وهواجس «الدليفري»؟ إذ إننا، وببضع نقرات على تطبيق متخصص، بمقدورنا طلب أية أصناف مأكولات لتأتينا جاهزة إلى باب منزلنا في غضون نصف ساعة.

أصبحت الراحة هي الملك المُسيطر على حياتنا العصرية، فراحت تجعلنا نُضحّي، سراً وفي غفلة منا، بثوابت وقصص كثيرة مهمة في ثقافتنا وموروثنا، بينها ثقافة الطهي والموائد، حيث لم تعد رائحة البصل المقلي في السمن تملأ مطابخنا، وينشأ أطفالنا مُعتقدين أن الطعام يأتي فقط من علب الكرتون والأواني البلاستيكية. إن الطبخ يُعلّمنا أكثر من مجرد كيفية إطعام أنفسنا. فهو مزيج من الكيمياء والإبداع، نعي معه: كيف تُحوّل الحرارة المكونات إلى وجبة لذيذة.. وكيف تُوازن التوابل النكهات.. وكيف يُنتج الصبر والاهتمام شيئاً أعظم من مجموع أجزائه. إن فقدان هذه المعرفة هو فقدان لجزء حيوي من التجربة الإنسانية.

وعلينا في هذا المقام، أن نتنبه إلى حقيقة أن الأسواق ورحلة التسوق التي تشكل مقدمة لفنون الطهي، ضرورية ومحورية في حيوات أبناء المجتمع، وهي بمثابة فصول دراسية. إذ إن الرحلة إلى أسواق الأسماك والخضراوات والتوابل تُوقظ الحواس وتجعلنا في حالة تجربة حسية تمِدُّ جسور التماس والتواصل بيننا وبين بريق المنتجات الطازجة وثرثرة البائعين ورائحة الأعشاب والمأكولات البحرية، ناهيك عن أكوام التوابل التي تُحوّل أطباقنا إلى روائع طهي. نعم، كثيراً ما يحضر وينبثق الإلهام هناك فنستذكر وسط تلك الرحلة أطباقاً حيوية كانت تُعدّها أمهاتنا أو جداتنا، إلا أننا نسيناها تماماً.

إن كل ثقافة تحوز وصفات طهي ثمينة خاصة بها وتقاليد وطقوس موائد ووجبات تجمع الأجيال. إنها تجارب وأطباق لا تقدر بثمن ولا يمكن أن تُباع في أي مطعم كونها مرتبطة بالذاكرة والحب. ويحضرني، في هذا السياق مشهد والدتي وهي باسمة مكللة بالصدق والحفاوة، بينما كانت ترحب بكل من يطرق بابنا أثناء إعدادها وجبتنا اليومية، والتي لم تكن تُشبع المعدة فحسب، بل تُدفئ القلب أيضاً. ففي تلك اللحظات، كانت الضيافة والمحبة لغتاها، وكان الطعام تعبيراً عن اهتمامها وانفتاحها.

ختاماً، إننا، ونحن نسمح بأن تختفي ثقافة الطهو وتناول الطعام في المنزل، نفرط بجزء من كينونتنا وثقافتنا وهويتنا. فهل يمكن أن نرتضي هذه الحال وذاك المآل يا ترى؟