في إحدى الأمسيات جلستُ مع صديق قديم يحدثني بحماس عن نجاحه في اقتطاع جزء ثابت من راتبه كل شهر. كان فخوراً بما ادّخره خلال عام كامل، لكنه حين تحدث عن يومياته، اكتشفت أن فرحته كانت ممزوجة بقلق دائم. فقد كان يقيّد نفسه وأسرته في تفاصيل صغيرة، إذ يختصر نفقات الطعام، ويتردد في شراء ما هو ضروري أحياناً، ويحسب خطواته كأن كل درهم يطارده. عندها تذكرت أن المال، مهما عظُم، إذا لم يُنفق بحكمة، قد يتحول من وسيلة للراحة إلى عبء نفسي خفي.

يُخيَّل إليّ أحياناً أن المال يشبه الماء. فمن يضع إناءه تحت المطر، سيجمع منه بقدر سعته. لكن السؤال ليس كم من الماء التقط، بل كيف سيستخدمه؟ فهناك من يروي به زرعه، وهناك من يضيّعه في مسارب لا تعود عليه بشيء.

كثيرون يظنون أن مفتاح الطمأنينة يكمن في التوفير أولاً، فيحرصون على اقتطاع جزء من دخلهم ولو على حساب أبسط تفاصيل يومهم. غير أن هذا الحرص، حين يتحول إلى هاجس، قد يجعل حياتهم أشبه برحلة طويلة لا استراحة فيها. والحق أن البداية ليست من التوفير، بل من فن أعمق وأقرب إلى جوهر الحياة، ألا وهو فن الإنفاق.

الإنفاق، في صورته الحكيمة، ليس إسرافاً ولا تبذيراً، بل هو اختيار واعٍ لأين يذهب المال. إنه القدرة على أن تضع كل درهم في مكانه الصحيح؛ فيما يحفظ الكرامة، ويحقق الكفاية، ويترك أثراً طيباً في مسار العمر. من يتقن هذه المهارة يكتشف أن التوفير سيأتي لاحقاً بشكل طبيعي، لا قسر فيه ولا قلق.

يمكن تشبيه الاقتصاد في المعيشة بطائر يطير بجناحين، جناح يمثل فن الإنفاق، وآخر يمثل فن التوفير. ولكي يحلّق الطائر بتوازن، لا بد من أن يبدأ حركته بالإنفاق الحكيم، فهو الذي يمنحه الانطلاقة الصحيحة، ثم يأتي التوفير ليُكمل الحركة ويجعلها مستقرة ومنتظمة. فإذا حاول أحدهم أن يعتمد على التوفير وحده، فسيظل الطائر عاجزاً عن التحليق.

هنا قد يعترض أحدهم قائلاً: «وماذا عن الذي لا يكفيه دخله ليؤمّن كل ما يحتاج؟ كيف يُطلب منه أن يوفّر؟» الجواب أن التوفير ليس مسألة مقدار بقدر ما هو عادة سلوكية. قد يكون التوفير درهماً واحداً، أو نسبة صغيرة لا تكاد تُذكر من إجمالي الدخل الشهري، لكنه مع مرور الوقت يتحول إلى سلوك مُستديم، وإلى شعور داخلي بالقدرة على الادخار مهما كان قليلاً. وكما قيل قديماً: «ما لا يُدرك كله، لا يُترك جلّه».

إن الاقتصاد بالمعيشة ليس صراعاً بين التوفير والإنفاق، بل هو تناغم بين جناحين. من يعرف كيف ينفق ماله بحكمة، يستطيع أن يفتح الطريق للتوفير من دون أن يعيش قلقاً أو اضطراباً. أما من يجعل التوفير هدفه الأول، فسوف يظل مُنشغلاً بالحسابات، ومتوجساً من أي نقص، وكأن حياته مؤجّلة إلى إشعارٍ آخر.

ختاماً نقول.. المال ليس غاية في ذاته، بل وسيلة ليعيش الإنسان حياته بكرامة واتزان. والتوازن هنا هو بيت القصيد، والذي يعني أن تُنفق لتلبية احتياجاتك، وللاستمتاع بالحياة، وتُوفّر لتعيش غدك براحة واطمئنان، من دون أن يطغى جناح على آخر.