كما هو معروف تم في الثاني من ديسمبر سنة 1971 الإعلان رسمياً عن تأسيس دولة خليجية اتحادية مستقلة ذات سيادة وهي دولة الإمارات العربية المتحدة، المكونة في البداية، من ست إمارات (أبوظبي ودبي والشارقة وعجمان وأم القيوين والفجيرة)، ثم وفي العاشر من فبراير 1972 انضمت إمارة رأس الخيمة إلى الاتحاد فاكتمل بذلك عقد الكيان الجديد. وكان من الطبيعي أن تكون للدولة الفتية سلام وطني، كسائر دول العالم، يعزف في المناسبات الوطنية والرسمية، وأثناء رفع العلم وتحيته.

مهمة وضع لحن للسلام الوطني للدولة تولاها الموسيقار المصري سعد عبد الوهاب، الذي كان يعمل ويقيم وقتذاك في الإمارات ونفذها في أواخر عام 1971. وفي عام 1986 تم تكليف الشاعر الدكتور عارف الشيخ عبدالله الحسن بتأليف كلمات النشيد الوطني، فقدم الأخير نشيد «عيشي بلادي» المكون من أربعة مقاطع ثم تتبعها كلمة «بلادي» أربع مرات، ثم ثمانية مقاطع متتابعة، والذي تم اعتماده من مجلس الوزراء. يقول نص النشيد:

عيشي بلادي عاش اتحاد إماراتنا

عشت لشعب دينه الإسلام هديه القرآن

حصنتك باسم الله يا وطن

بلادي بلادي بلادي بلادي

حماك الإله شرور الزمان

أقسمنا أن نبني نعمل

نعمل نخلص نعمل نخلص

مهما عشنا نخلص نخلص

دام الأمان وعاش العلم يا إماراتنا

رمز العروبة

كلنا نفديك بالدما نرويك

نفديك بالأرواح يا وطن

نخصص هذه المادة للحديث عن سيرة سعد عبد الوهاب، باعتباره موسيقاراً عربياً أنجز لحناً جميلاً خالداً للسلام الوطني لدولة الإمارات وقت قيامها. لخص الكاتب الصحفي المصري «سيد المليجي» في مقال نشره في صحيفة «الوطن» القاهرية (16/6/2022) مشوار سعد عبد الوهاب بقوله: «عاش سعد عبد الوهاب حياته وكأنه ضيف أو عابر سبيل. كان مشواره متأرجحاً بين مجموعة اختبارات غير مفهومة للمحيطين به.

فقد درس الزراعة لكنه لم يتقبل البقاء في وظيفة مهندس زراعي في الصعيد، وعمل في الإذاعة ثم استقال منها لأجل السينما، وهجر السينما ليتفرغ للموسيقى، وسرعان ما قرر الابتعاد عن الأضواء، واتخذ قراراً بالإقامة في المملكة العربية السعودية حيث قدم هناك مجموعة أغانٍ دينية، بعدها نقل نشاطه إلى الإمارات العربية المتحدة، حيث لحن النشيد الوطني الإماراتي وغناه بصوته، وحين قرر العودة إلى مصر ليستأنف نشاطه الفني هاجمه المرض، وحال ذلك دون تحقيق رغبته في العودة للأضواء».

ولد «سعد حسن محمد عبد الوهاب أبوعيسى الحجر» الشهير بسعد عبد الوهاب في قرية بني عياض بمحافظة الشرقية بتاريخ 16 يونيو سنة 1929 أي حينما كان عمه موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب (1902 ــ 1991)، متربعاً على عرش الغناء والتلحين في العالم العربي. كان ميلاده في عائلة دينية محافظة، حيث عرف عن والده الشيخ حسن أنه كان ضد احتراف شقيقه محمد عبد الوهاب للفن، بل كان يشارك والده (جد المترجم له) في القسوة على الأخير لثنيه عن الغناء والتلحين، قبل أن يغير رأيه بعد نجاحات محمد عبد الوهاب المتتابعة وشهرته المدوية في الغناء والتمثيل السينمائي، وانهمار الأموال الطائلة عليه.

ورث سعد من عمه العديد من الصفات ومنها الصوت والملامح والموهبة وحب الفن، وحتى الوسواس والخوف من المرض ونزلات البرد لكنه لم يكن مثله لجهة الإصرار على الفن والاستمرار والتجديد واقتحام عوالم الموسيقى العالمية للاقتباس والتثقف، على الرغم من نشأته في كنف عمه، بعد أن سمح له والده بذلك، وتردده على صالوناته الفنية، ومتابعته لمعظم تدريباته وتسجيلاته.

ففي إحدى مقابلاته الإذاعية أقر أن تربيته الفنية قد نمت بفضل حضوره لمعظم تدريبات وتسجيلات محمد عبد الوهاب سواء في أعمال الأخير الصغيرة أم الكبيرة مثل «الجندول» و«الكرنك» و«كليوباترا».

ويمكن القول: إن سعد كان مثل غيره من مطربي تلك الحقبة لجهة التأثر بمحمد عبد الوهاب وتقليده. ولئن تمكن بعض هؤلاء من شق طريقه وفق نهج وأسلوب مختلفين، فإن سعد بقي يعيش في جلباب عمه ولم يستطع خلعه، خصوصاً وأن عمه تكفله بالاهتمام والرعاية، وعهد إلى عازف العود المصري الماهر جورج ميشيل عملية تدريسه العزف، ولاحقاً قدمه لمخرجي السينما، بل ساعده على دخول مجال الإنتاج السينمائي كي ينتج لنفسه.

التحق سعد في عام 1945 بكلية الزراعة في جامعة القاهرة ليغدو مهندساً زراعياً، بناءً على رغبة والده الشيخ حسن عبد الوهاب، على الرغم من ولعه في تلك الفترة بالموسيقى.

وبالفعل درس في تلك الكلية وتخرج منها عام 1949، لكنه لم يمارس تخصصه إلا لأقل من أسبوعين شغل خلالهما وظيفة كاتب في مصنع للسكر بنجع حمادي في صعيد مصر. إذ يبدو أنه اضطر لقبول تلك الوظيفة، وتحمل الحياة الخشنة في الصعيد مقارنة بما اعتاد عليه في القاهرة، بينما كان يتحين الفرصة للانتقال إلى شيء آخر.

وقد واتته تلك الفرصة حينما أعلنت الإذاعة المصرية عن اختبارات لقبول دفعة جديدة من المذيعين، حيث سارع بالسفر إلى القاهرة للخضوع للاختبار، ثم عاد إلى وظيفته بالصعيد. بعد عشرة أيام تلقى خطاباً من الإذاعة حول نجاحه وضرورة القدوم لاستلام العمل، فحزم أمتعته ونقل متعلقاته من الصعيد، وذهب إلى دار الإذاعة بوسط القاهرة لاستلام وظيفته الجديدة، وهناك أخضع للتدريب على الإلقاء لمدة أسبوعين على يد سعيد أبوالسعد.

غير أن عمله في الإذاعة شابه بعض التوترات والإخفاقات، والشكوى من بطء قراءته للنشرات تارة، وحماسه تارة أخرى إذا كان الخبر متعلقاً بفلسطين، إلى درجة كان يحول معها نشرة الأخبار إلى خطبة حماسية، ويبدو أن الملاحظات المتتالية من رؤسائه على أدائه، علاوة على شكواه من ضغط العمل واضطراره في أحايين كثيرة للسهر وبالتالي الاستغراق في غفوات قصيرة أثناء العمل، جعله يقرر ترك وظيفته الإذاعية، ويولي وجهه صوب السينما.

ففي تلك الفترة تعرف على المخرج السينمائي محمد كريم (1896 ــ 1972) الذي أخرج لعمه محمد عبد الوهاب كل أفلامه في الثلاثينات والأربعينات، فشجعه على دخول عالم التمثيل ودبر له لقاءات مع كبار منتجي ومخرجي السينما المصرية وقتذاك.

وهكذا تحول الرجل إلى ممثل سينمائي وظهر اسمه على أفيشات الأفلام، وكانت أولى تجاربه الوقوف أمام النجمة الاستعراضية نعيمة عاكف في فيلم «العيش والملح» للمخرج حسين فوزي في سنة 1949، ثم قدم الثلاثي معاً في العام التالي فيلم «بلدي وخفة».

تحمس المخرج حسين فوزي له وقدمه في عام 1950 مرة أخرى في فيلم «سيبوني أغني» أمام المطربة صباح التي وقفت أمامه مرة أخرى في فيلم «أختي ستيتة» من إخراج المخرج نفسه (حيث شاركته صباح في دويتو «قطعني حتت» من ألحان رياض السنباطي)، وفي عام 1951 شارك كبطل في فيلم «بلد المحبوب» للمخرج حلمي رفلة أمام تحية كاريوكا، وفي عام 1955 أدى دور البطولة في فيلم «أماني العمر» من إخراج سيف الدين شوكت. أمام الفنانة ماجدة.

وبعد أن قدم ستة أفلام، وهو على رأس عمله الإذاعي، استقال في عام 1954 من عمله في الإذاعة بدعوى رغبته في التركيز على مجالي التمثيل والغناء. وبالفعل استجابت الإذاعة لرغبته، لكنه بعد ذلك لم يقدم سوى عمل سينمائي وحيد هو فيلم «علموني الحب» للمخرج عاطف سالم في عام 1957 أمام النجمة السمراء إيمان.

وعليه فقد تجمد رصيده السينمائي عند 7 أفلام، لكن فيلمه الأخير حقق نجاحاً جماهيرياً كبيراً بسبب تضمنه لعدد من أغانيه الجميلة، ولا سيما أغنية «الدنيا ريشة في هواء» التي لحنها له عمه موسيقار الأجيال من كلمات المبدع مأمون الشناوي، والتي أصر عبد الوهاب على إدخاله في الفيلم لاحقاً، وكذلك أغنية «على فين واخداني عينيك» من ألحان عبد الوهاب وكلمات أحمد شفيق كامل.

وبسب عمله الناجح الأخير، اعتقد الكثيرون في الوسط الفني آنذاك أنهم على موعد مع نجومية سينمائية فذه سوف تواصل مشوارها طويلاً، لكنه فاجأهم بإعلان رغبته في التوقف عن التمثيل من أجل التفرغ للغناء والتلحين (كان وقتذاك قد قدم نحو مائة أغنية، لعل أشهرها: «الدنيا ريشة في هواء»، «وجهك ولا القمر»، «القلب القاسي»، «من خطوة لخطوة»، «على فين واخداني عينيك»، «جنة أحلامي»، «شبابك أنت»، «انت ويايا والهنا معايا» و«بنات البندر»). ويقال إن قراره هذا كان بتأثير من صديقه الشيخ محمود شلتوت (شيخ الأزهر الأسبق) الذي نصحه بألا يمثل إلا في الأفلام ذات المضمون الهادف والبعيد عن إثارة الغرائز.

التحق سعد بمعهد الكونسرفاتوار في القاهرة بمجرد افتتاحه عام 1959 على يد الموسيقار أبوبكر خيرت، من أجل أن يعزز ثقافته الفنية ويتعلم النظريات الموسيقية على أصولها. وفي عام 1960 انطلق بث التلفزيون المصري لأول مرة، فسعى لتصوير أغنيتين دينيتين، إحداهما عن شهر رمضان والأخرى عن الحج.

فكان له ذلك، وتم بث الأغنيتين تلفزيونياً، لكن صاحبنا كان كثير الشكوى من عدم تكرار بثهما، إلى درجة أنه أعلن عن رغبته في هجر الأغاني العاطفية لصالح الأغاني الدينية فقط. ومع توقف نشاطه الفني المعتاد بسبب عدم تعاون الآخرين معه، وانصراف عمه عنه للاهتمام بالنجم الجديد عبد الحليم حافظ، قرر سعد أن يترك مصر ويسافر إلى المملكة العربية السعودية.

وفي الأخيرة أمضى سبع سنوات من حياته، شغل خلالها منصب مستشار للإذاعة السعودية لشؤون الأغنية الوطنية والدينية، وقدم خلالها مجموعة من أغاني الروحانيات، مبتعداً عن الألحان المغايرة. ويبدو أن أوضاعه المعيشية والوظيفية والاجتماعية كانت جيدة، بدليل أنه أطال الإقامة في ربوع المملكة.

غير أن وساوسه وطبعه الباحث عن التجديد والتنقل والتجربة ألح عليه، فترك السعودية، وجال على الكويت والبحرين، ومنهما توجه إلى دولة الإمارات قبيل استقلالها بوقت قصير. وهناك عمل مستشاراً في إذاعة أبوظبي التي كان قد انطلق بثها رسمياً في 25 فبراير عام 1969.

في الإمارات أمضى صاحبنا ما يقارب 3 سنوات، انتهت بقراره العودة إلى مصر، لكنه بدلاً من ذلك سافر إلى العاصمة البريطانية التي أقام بها لبعض الوقت، وسجل خلاله تلاوة عدد من سور القرآن الكريم بصوته العذب. بعد لندن، عاد إلى مصر التي غاب عنها لسنوات طويلة، فظل بعيداً عن الأضواء ومنعزلاً عن الوسط الفني، ومؤكداً للجميع أنه سوف يخصص ما تبقى له من العمر لرعاية وتربية نجليه (هاني وعمرو) اللذين كانا قد فقدا أمهما مبكراً.

غير أن ما لوحظ عليه آنذاك أنه كان يخطط بهدوء لاقتحام سوق الكاسيت المنتعش جداً في سبعينات القرن العشرين، وطرح ألبوم ينعش به ذاكرة الجمهور الذي لم يعاصر بداياته. وبالفعل جهز ألحاناً قدمها لعدد من المطربين والمطربات، علماً أنه قدم في ذروة نشاطه وقمة مجده ألحاناً لفنانين مثل محمد قنديل وصباح وشريفة فاضل وفايدة كامل، إذ كان موسيقياً بارعاً بفضل دراسته بمعهد الكونسرفاتوار عقب افتتاحه مباشرة في عام 1959، حيث درس النظريات الموسيقية على يد موسيقي إيطالي واتبع نصائح عمه وأستاذه موسيقار الأجيال.

بعد سنوات من عودته إلى مصر، وبعد محاولات حثيثة للعودة إلى الساحة الفنية بهدوء، داهمه المرض الذي حرمه مما كان يخطط له، حيث فارق الحياة بمستشفى فلسطين بالقاهرة في 22 نوفمبر عام 2004، عن عمر ناهز 78 عاماً، وذلك بعد معاناة مع المرض لمدة ثلاث سنوات متواصلة.