المهرجانات من وجهة نظري هي جسور حية بين الماضي والحاضر، ومختبر رمزي تستعاد فيه ذاكرة الشعوب وقيمها العريقة. وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، تحولت المهرجانات التراثية إلى منابر فلسفية وثقافية تُعيد إنتاج الهوية الوطنية في صورة حديثة، تجمع بين الأصالة والمعاصرة.
فالتراث كيان متحرك يعيش مع الناس، يلهمهم ويعيد تشكيل وعيهم الجمعي. من هنا تأتي المهرجانات لتصبح أشبه بطقوس مدنية كبرى، تُذكر الأجيال بجذورهم، وتربطهم برؤية الدولة في أن الماضي هو طاقة معرفية يمكن أن تُوجه نحو المستقبل.
كل خيط من خيوط «السدو»، وكل نغمة من نغمات العيالة، وكل سباق إبل، هو نص فلسفي مفتوح يُقرأ من منظور الهوية. إنها رموز كبرى تحمل في طياتها معنى الاستمرارية؛ فالإنسان الإماراتي يعيد عبرها اكتشاف نفسه كجزء من سلسلة حضارية طويلة لم تنقطع رغم التحولات السريعة.
إذا تأملنا المهرجانات التراثية من زاوية فلسفية، وجدنا أنها تؤدي ثلاث وظائف كبرى مثل الوظيفة الوجودية، فالمهرجان لحظة يتوقف فيها الزمن المادي، ليُفسح المجال للزمن الرمزي. عندما يعيش الجيل الجديد لحظة «اليولة» أو يشاهد «التغرودة»، فهو يدخل في حوار وجودي مع أجداده، ويشعر أن حياته ممتدة في نسيج تاريخي عميق. وكذلك الوظيفة الاجتماعية، فالمهرجانات تُعيد بناء الروابط بين الناس.
في زمن العزلة الرقمية والمدن الحديثة، تأتي هذه الفعاليات لتخلق مجتمعاً متماسكاً، يتشارك فيه الجميع الفرح والفخر. إنها مسرح للهوية المشتركة، حيث يذوب الفرد في الجماعة دون أن يفقد خصوصيته، إضافة إلى الوظيفة التربوية، حيث أن المهرجانات مدارس مفتوحة.
الطفل الذي يشارك في سباقات الصقور أو يتعلم حرفة يدوية في المهرجان، لا يتلقى درساً نظرياً، بل يعيش تجربة وجدانية تغرس في وعيه معنى الانتماء، هذه التربية غير المباشرة هي التي تحفظ القيم من الاندثار. من الناحية الوطنية، المهرجانات التراثية تجسد مشروع الدولة في تعزيز الهوية الإماراتية. إنها رسائل واضحة تقول: «رغم الانفتاح الهائل على العالم، هناك جذور راسخة، وقيم أصيلة، وأرضية ثابتة تُبنى عليها النهضة».
أما عالمياً، فهي وسيلة دبلوماسية ثقافية.. فحين يأتي السياح أو المشاركون من مختلف دول العالم ليشاهدوا «التلي» و«اليولة» أو يشاركوا في سباقات القوارب الشراعية، فإنهم يطلعون على روح الإمارات العميقة، ويتحول المهرجان إلى لغة عالمية تعبر عن الإمارات في بعدها الحضاري والإنساني.
ففي معرض أبوظبي الدولي للصيد والفروسية، يلتقي التراث بالتعليم في تجربة فريدة تستقطب الأجيال الناشئة، أما «مهرجان الشيخ زايد التراثي»، فيعد من أضخم التظاهرات الثقافية في المنطقة، حيث تُعرض الحرف اليدوية، وتقام العروض الشعبية، وتستعاد ملامح الحياة الإماراتية القديمة. و
في مهرجان الظفرة للإبل، نرى الفلسفة التراثية في أبهى صورها.. فالإبل التي كانت رفيقة البدوي في الصحراء تتحول إلى رمز ثقافي واقتصادي وسياحي، فيعيد المهرجان إحياء علاقة الإنسان بالصحراء، ويجسد قيم الصبر والتحمل والكرم التي طالما ارتبطت بالإماراتيين.
وحسب تجربتي، شكل تنظيم «إكسبو دبي التراثي الحرفي» عام 2024، الذي أقامه رواق عوشة الثقافي بالتعاون مع صندوق الفرجان، علامة فارقة في جمع الحرفيين الإماراتيين مع مبدعي العالم في فضاء واحد، حيث التقت الحرف اليدوية التقليدية مع أحدث مفاهيم العرض والتسويق. وقد جسد هذا المعرض كيف يمكن للتراث أن يتحول إلى أرضية للتبادل الثقافي العالمي، وفي الوقت ذاته إلى ركيزة اقتصادية حيوية لأصحاب الحرف.
ونقوم حالياً بالتحضير لمهرجان «إكسبو 971» في رأس الخيمة الذي يسعى إلى صياغة الموروث الإماراتي في قالب الهوية الحقيقية الأصيلة والعريقة ويضم فعاليات تراثية عدة لا يتسع المجال لحصرها هنا، ولكن، لعل القيمة الكبرى تكمن في أن «إكسبو 971» يحتاج إلى دعم مؤسساتي شامل ورعاية مجتمعية واعية، حتى يتحول إلى منصة وطنية متكاملة تربط بين أصالة الحرف اليدوية وتقاليد البحر، وبين مشاريع الزراعة والبيئة الجبلية.