قامت مدينة الرياض على أنقاض مدينة «حجر اليمامة» التي عرفت بأنها قاعدة إقليم اليمامة، طبقاً لكتاب «معجم البلدان» لياقوت الحموي، واتخذتها الدولة السعودية الأولى والدولة السعودية الثانية عاصمة لهما، ثم فتحها الملك عبد العزيز آل سعود، طيب الله ثراه، في عام 1902، واتخذها قاعدة لانطلاق مسيرته نحو توحيد الجزيرة العربية وتأسيس الدولة السعودية الثالثة.

ومنذ ذلك التاريخ، شهدت تحولات وتغييرات كثيرة لجهة مساحتها وتخطيطها وعمرانها ومعالمها وعدد سكانها وأحيائها ومراكزها الحضرية، فتحولت من بلدة ذات بيوت طينية، وشوارع غير معبدة، وأحياء فقيرة، ومبان قليلة، وسكان لا يتجاوز عددهم الآلاف إلى واحدة من أكبر العواصم العربية وأسرعها نمواً، بعدد سكان يفوق 8.6 ملايين نسمة ومساحة تبلغ 380 ألف كيلومتر مربع، ومقومات سياحية وثقافية وترفيهية ورياضية واقتصادية ومالية كثيرة.

ويعزى الكثير مما تحقق للمدينة على مدى العقود السبعة الماضية إلى الرؤية الحكيمة والإدارة الحازمة لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز الذي تولى إمارة الرياض منذ عام 1954 وحتى عام 2011، فعمل على تطويرها في مختلف المجالات وأشرف شخصياً على أعمال أمانتها وخططها وتطوير مرافقها.

والمعروف أن أمانة مدينة الرياض بدأت كبلدية صغيرة في عام 1937 قبل أن تتوسع وتزداد مهامها ومسؤولياتها وتتحول في عام 1956 إلى أمانة تتبعها العديد من البلديات. والمعروف أيضاً أن 8 شخصيات تولت رئاسة أمانة مدينة الرياض منذ تأسيسها وحتى اليوم، بدءاً من الأمير فهد بن فيصل الفرحان آل سعود، وانتهاءً برئيسها الحالي المهندس فيصل بن عبد العزيز العياف.

ويبرز من بين هذه الشخصيات، عبدالله العلي النعيم، الذي سنتناول هنا توثيق سيرته ومسيرته وجهوده وحكايته مع الرياض التي تولى أمانتها وتسيير شؤونها البلدية والمرفقية في زمن مفصلي في تاريخ المملكة العربية السعودية، وهو زمن الطفرة النفطية التي حولت الرياض وغيرها من المدن السعودية إلى ورش ضخمة للتنمية والبناء والتطوير.

ولد عبدالله العلي الصالح النعيم بمدينة عنيزة في إقليم القصيم بتاريخ 15 ديسمبر 1932، ابناً لأسرة كان الوالد فيها يملك دكاناً لبيع القهوة والشاي والسكر ومتطلبات الحياة اليومية، ويعمل في الوقت نفسه دلالاً في المزادات على التمر والقمح. درس النعيم في الكتاتيب الملحقة بالمساجد في عنيزة، لعدم وجود مدارس التعليم النظامية آنذاك.

وخلال طفولته أظهر نبوغاً مبكراً، بدليل أنه تمكن من حصد جائزة بقيمة مائة ريال خصصها معلمه الشيخ عبد الرحمن السعدي لمن يستطيع من تلامذة كتابه حفظ نص لغوي أو فقهي. وحينما افتتحت في عنيزة أول مدرسة نظامية ابتدائية التحق بها، لكنه لم يكمل تعليمه فيها.

وبسبب الفقر والحاجة والرغبة في تحسين ظروفه المعيشية خرج النعيم من بلدته قاصداً مكة المكرمة، لكنه لم يجد عملاً بها، الأمر الذي جعله يقرر السفر شرقاً نحو الظهران، قاعدة شركة آرامكو النفطية التي كانت وقتذاك تدير مشاريع كبرى وتوفر فرص العمل برواتب مجزية.

وفي الظهران، وجد النعيم عملاً وسكناً متواضعاً في إحدى محطات الوقود، وظل كذلك إلى أن عثر على عمل أكثر دخلاً في مشروع مد خط التابلاين التابع لشركة أرامكو، حيث ظل يعمل براتب 300 ريال شهرياً لمدة ثلاث سنوات متواصلة مع أحد المهندسين الأمريكيين انتهت بعودته إلى مسقط رأسه، حيث عمل مدرساً في إحدى مدارسها الأولى.

ومن وظيفته هذه انتقل للعمل مراقباً في المعهد العلمي، ومن الأخير انتقل إلى جدة ليشغل وظيفة «وكيل مدرسة الثغر الثانوية النموذجية» لمدة سنة، ومن جدة انتقل إلى الرياض بعد صدور قرار بتعيينه مديراً لمعهد المعلمين فيها. ولم يمض وقت طويل إلا والرجل يصعد درجات عدة دفعة واحدة ويصبح مديراً للتعليم في نجد.

الغريب هنا، لكنه ليس بالمستغرب على النعيم الذي أثبت نبوغاً منذ صغره كما قلنا، هو دخوله سلك التعليم وحصوله على ترقيات متتالية دون أن يحمل أية شهادة دراسية. ويزول الاستغراب حينما نعلم أن الرجل اعتمد على نفسه في تعلم الكثير من المهارات والمعارف والثقافات إبان عمله في الظهران، ومن خلال القراءة والمطالعة المستمرة.

على أن تلك المهارات والمعارف لم تمنعه لاحقاً، حينما واتته الفرصة، من إكمال تعليمه البسيط. إذ وجد أنه من غير المقبول أن يكون على رأس جهاز التعليم وهو لا يحمل حتى شهادة الابتدائية، فالتحق للدراسة بالمعهد العلمي السعودي للحصول على الثانوية العامة أولاً، قبل أن يلتحق بجامعة الملك سعود انتساباً ويتخرج منها حاملاً درجة البكالوريوس في التاريخ بمرتبة الشرف، ويعمل أميناً عاماً مساعداً للجامعة نفسها لمدة سنتين انتهت بتعيينه مديراً عاماً للإدارة في الجامعة، وهو منصب ظل فيه لمدة ست سنوات.

ويقول مصدر من المصادر التي اعتمدنا عليها لتوثيق سيرته أنه أراد بعد تخرجه من الجامعة مواصلة دراسته العليا، وقد جاءته الفرصة حينما تم نقله إلى بريطانيا كملحق ثقافي مسؤول عن طلبة الدراسات العليا من السعوديين المبتعثين إلى المملكة المتحدة، حيث التحق بجامعة كمبريدج للحصول على درجة الدكتوراه في التاريخ الحديث عن أطروحة حول تاريخ جنوب المملكة العربية السعودية، لكنه لم يقدمها لأنه استدعي للعودة إلى الرياض، وأخذته أعباء وظائفه وانشغالاته الكثيرة فتجاهل أمر تقديمها لاحقاً، على الرغم من إنجازه لتسعين في المائة منها.

ويمكن القول إن المنعطف الأهم في حياته الوظيفية، والذي برز من خلاله كشخصية إدارية يمكن الاعتماد عليها، هو قرار اختياره من قبل الشيخ عبد العزيز القريشي وزير الدولة ورئيس ديوان الخدمة المدنية ليكون معه ومع آخرين في لجنة شكلها مجلس الوزراء السعودي آنذاك لحل أزمة الغاز التي عانى منها سكان المملكة في مطلع السبعينات من القرن العشرين، حيث تم في عام 1974 إسناد مهمة إدارة «شركة الغاز والتصنيع الأهلية» المسؤولة عن تأمين الغاز للسكان إليه، نظراً لضعف أداء الشركة، فتمكن النعيم من وضع حلول عاجلة لحل الأزمة تمثلت في مخاطبته لوزارة الدفاع السعودية والطلب منها تخصيص مركبات وشاحنات الجيش لشحن أسطوانات الغاز من مصدرها في المنطقة الشرقية وتوصيلها للمستهلكين في مختلف المناطق والمدن.

وهكذا، كان ثمن فوزه في حل أزمة الغاز، ونجاحه في قيادة شركة خاسرة إلى بر الأمان هو تعيينه أميناً عاماً للرياض التي كانت تعاني في تلك الفترة الكثير من المشكلات البيئية والصحية والخدمية. وليس أدل على ذلك من مخاطبة الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، له بقوله: «أنت نجحت في الغاز، ونحن أمام مشكلة في الأمانة، ونحتاج إلى شخص شجاع مثلك». تولى النعيم أمانة مدينة الرياض رسمياً في عام 1976، فشمر عن ساعديه واستعان، في حل مشكلات العاصمة بعدد من التجار والمقاولين المحليين، وببعض الشركات المتخصصة.

دعونا نقرأ ما كتبه د. أحمد عمر الزيلعي في مجلة اليمامة (25/12/2024) عما أحدثه النعيم من تغييرات: «شَهِدَتْ تلك الحقبة التي أمضاها معالي الدكتور عبدالله النعيم أميناً عاماً لمدينة الرياض طفرة في اتساع عمرانها، وضبط طوابق ما كان منه على الشوارع الرئيسية والشوارع الداخلية، ونجح في نظافة شوارعها، وسفلتتها، وتشجيرها، وتزويدها بحدائق عامة، بعضها كانت مزارع خاصة نُزعت ملكيتها لهذا الغرض، واتسعت المدينة بما أضافه إليها من منح ذوي الدخل المحدود التي نافت على 30 ألف منحة سكنية، ولعلها من أكبر المنح التي شهدتها المدن السعودية في تاريخها».

ويعزو الزيلعي نجاح النعيم في عمله كأمين عام للرياض إلى عوامل عدة، منها: حضوره الفاعل والدائم في ميدان العمل بدلاً من الجلوس خلف مكتبه المكيف، ومراجعته شخصياً لمختلف الجهات الحكومية ذات الصلة بدلاً من الاعتماد على صغار موظفيه، وتخويل بعض صلاحياته إلى كبار المهندسين وصغارهم من أجل بث روح الحماس فيهم، وفتح فروع للأمانة في العديد من أحياء الرياض تخفيفاً على المراجعين وأصحاب الطلبات من المشاوير الطويلة، وإنشاء مكتب تنسيقي للمشروعات الخدمية ومشاريع الكهرباء والمياه والهاتف والطرق يجتمع فيه كل أسبوع مع ممثلي الجهات ذات العلاقة، وحرصه على المزج بين التطوير الحضري والحفاظ على الهوية الثقافية للعاصمة من خلال رؤية تجمع بين الأصالة والحداثة. هذا ناهيك ــ بطبيعة الحال ـ عن الدعم والتوجيه الذي كان يتلقاه من أمير الرياض آنذاك، خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبالعزيز آل سعود، عاهل المملكة العربية السعودية.

في عز نشاطه وشهرته وتألقه وقمة عطائه، وكيل المديح والثناء له، خالف النعيم المسؤولين الذين يتشبثون بمقاعدهم حتى الموت أو الإعفاء، وقرر التقاعد عن العمل. غير أن الملك فهد بن عبد العزيز، رحمه الله، رفض استقالته وتمسك به إلى أن تدخل أمير الرياض، آنذاك، خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، ووزير الشؤون البلدية والقروية (الشيخ إبراهيم العنقري)، حينها، لتحقيق طلبه. وعلى إثر ذلك وافق الملك فهد بن عبد العزيز على إعفائه شريطة أن يبقى في معترك الأعمال واللجان التي كان عضواً فيها إبان شغله لمنصب أمين عام مدينة الرياض.

وهكذا نجده ينتقل من العمل الرسمي إلى العمل التطوعي غير الرسمي، ويواصل خدمته لبلاده، فيتولى الإشراف على «لجنة العناية بالإخوة الكويتيين» إبان غزو العراق للكويت وتشريد أهلها، ويشارك في تأسيس «مكتبة الملك فهد الوطنية» ويترأس مجلس أمنائها، ويترأس مجلس أمناء «المعهد العربي لإنماء المدن» ويصبح أميناً عاماً للمدن العربية، ويمارس دوراً فعالاً في تنظيم «معرض المملكة بين الأمس واليوم» المتنقل، وفي تأسيس «مركز الملك سلمان الاجتماعي» الذي تولى رئاسة مجلس إدارته.

كما نجده ما بين هذا وذاك يمارس كتابة المقالات الصحفية، ويتحدث في المقابلات الصحفية والصالونات الأدبية والندوات والمحاضرات والمعارض عن تجربته الثرية في العملين التربوي والبلدي، ويبادر إلى إطلاق المشروعات الخيرية المتنوعة، ولا سيما في القصيم، مثل «الجمعية الخيرية الصالحية بعنيزة» التي تضم «مركز صالح بن صالح الاجتماعي» للرجال و«مركز الأميرة نورة الاجتماعي» للنساء.

استمر النعيم ناشطاً في مجالات عدة، متسماً بالصدق والصراحة والتواضع والتسامح ومساعدة مواطنيه، إلى أن لاقى وجه ربه في يوم الأحد الموافق للخامس عشر من ديسمبر 2024 عن 92 عاماً، فتمت الصلاة عليه في عصر اليوم التالي بجامع الراجحي، ودفن بمقبرة النسيم في الرياض.

ترك الفقيد خلفه ثلاثة كتب من تأليفه، هي: «تاريخ عسير» (أطروحة دكتوراه)، و«آداب الحسبة في الإسلام» (سلسلة مقالات)، و«بتوقيعي، حكايات من بقايا السيرة» (سيرة ذاتية)، علاوة على مجموعة من المحاضرات حول الخدمات البلدية ومشكلاتها، وتطبيقات اللامركزية، وأساليب الإدارة، والتطور العمراني لمدينة الرياض، ودور البلديات في خدمة المواطن ودور المواطن في مساعدة البلديات، وغيرها.

أما الكتب التي صدرت عنه، فهي: كتاب «عبدالله العلي النعيم.. الإدارة بالإرادة» من تأليف إبراهيم عبد الرحمن التركي، وكتاب «عشتُ لم ألتفت: رؤية سردية للمسيرة الرسمية والتطوعية للقائد الإداري الشيخ عبدالله العلي النعيم» من إعداد مركز العالم للتوثيق.

وأما التكريمات التي حصل عليها فتشمل منحه درجة الدكتوراه الفخرية من جامعة السوربون الفرنسية في عام 1988، وحصوله على وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الممتازة، ووسام الملك حسين بن علي من الأردن ووسام العرش بدرجة قائد من المغرب.

وتخليداً لاسمه وجهوده أطلق أبناؤه في عام 2016 جائزتين علميتين باسمه: الأولى هي «جائزة عبدالله العلي النعيم لخدمة تاريخ الجزيرة العربية وآثارها»، وتمنح كل عام لأربعة أعمال علمية في تاريخ الجزيرة العربية وآثارها تحت إشراف جمعية التاريخ والآثار بمجلس التعاون الخليجي. والثانية هي «جائزة عبدالله العلي النعيم لخدمة تاريخ الوطن العربي وحضارته» السنوية التي تمنح تحت إشراف اتحاد المؤرخين العرب بالقاهرة لأربعة من الباحثين على مستوى الوطن العربي.

ونختتم بما قالته الأكاديمية السعودية د. خيرية السقاف عن الفقيد، حيث وصفته بأنه: «علامة بارزة في تاريخ المدينة الشاهقة ضياءً، الممتدة اخضراراً، المتسعة في قلب الصحراء حضارة وعمراناً.. عبدالله العلي النعيم تشهد له جوانبها وشوارعها وعمارتها وأسواقها وكهرباؤها وأنفاقها وجسورها ومكتباتها وأناسها فقيرهم وغنيهم. أثق بأنه أحد الأعلام تاريخاً، وسيظل في الأذهان، كما أتمنى أن يطلق اسمه على أحد أهم ميادينها وفاءً بحجم إخلاصه وعطائه وبذله».