بات موسم العودة إلى المدارس في المنطقة العربية يدق على أبواب غير تلك التي يفترض أن يدقها. في دول عربية عدة، لم يعد الصغار يحلمون بحذاء وحقيبة وملابس وكتب مدرسية جديدة، ويشتاقون للقاء أقرانهم بعد أشهر إجازة الصيف، ويحرصون على شراء الأدوات المكتبية التي تحمل صور شخصياتهم الكرتونية المفضلة، أو تلك التي طرحت حديثاً في الأسواق حاملة قدراً من التكنولوجيا مع ألوان مبهجة تدغدغ مشاعر الصغار.

تقديرات «اليونيسف» (صندوق الأمم المتحدة للطفولة) تشير إلى أن نحو 30 مليون طفل خارج المدرسة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.. هذا الرقم يعود إلى مطلع العام الجاري، أي قبل أن تتدهور الأوضاع بشكل غير مسبوق في مناطق عدة، على رأسها غزة، وكذلك السودان.

عدد الأطفال العرب في الفئة العمرية بين 5 و18 عاماً من غير الملتحقين بالمدارس ارتفع بشكل كبير، ورقم الـ30 مليوناً يأتي على أقل تقدير. بمعنى آخر طفل عربي واحد من كل 3 أطفال في 12 دولة عربية غير ملتحق بالمدارس، بمعنى ثالث هذه الملايين المحرومة من التعليم الأبجدي لا الرقمي ينتظرها مستقبل غامض محفوف بمخاطر الأمية.

من السودان إلى اليمن، ومنهما إلى سوريا التي تصارع الزمن من أجل إعادة بناء وترميم آلاف المدارس التي تهدمت على مدار ما يزيد على عقد كامل من الحرب، ومنها إلى غزة، حيث الكارثة الكبرى.. الحديث عن مدرسة وأطفال وعام دراسي جديد، بينما المجاعة تحصد الأرواح، وإسرائيل تصعد العدوان والتهجير والقتل، ومستقبل أقرب ما يكون إلى الكابوس المؤكد، يبدو حديث رفاهية لا طاقة لأهل غزة به.

يكفي أن 90% من مدارس غزة إما تدمرت أو تضررت بشدة، وما تبقى من مدارس تحول إلى ملاجئ يتم قصفها، وحقائب الصغار تحولت إلى حقائب سفر ونزوح.

العام الدراسي المقبل هو العام الثالث على التوالي الذي يستمر فيه حرمان أغلب أطفال غزة من التعليم.. إنه الجيل الذي أطلقت عليه الأمم المتحدة جيلاً ضائعاً.

أطفال غزة ليسوا وحدهم الجيل الضائع، فهناك ما لا يقل عن 19 مليون طالب سوداني حائرون بين حرب أهلية مدمرة تأبى أن تضع أوزارها، وأوضاع أمنية مزرية، وانتشار غير مسبوق للألغام والجثامين المتحللة، وتفشي العديد من الأوبئة.. هؤلاء أيضاً يجدون أنفسهم محرومين من التعليم المنقطع منذ أبريل عام 2023.

ومن السودان إلى اليمن، حيث ما يزيد على 4 ملايين طفل خارج منظومة التعليم بفعل الصراع المستمر على مدار ما يزيد على عقد كامل. ما يجري في دول عربية مزقتها الصراعات هو كارثة عابرة للأجيال، وتفوق في حجمها وآثارها الممتدة آثار الحرب بكثير.

أي مستقبل ينتظر هذه الأجيال الضائعة والمحرومة؟، وأي مستقبل ينتظر المنطقة في ظل حرمان هذه الملايين من أبسط الحقوق، الحق في تعلم القراءة والكتابة؟، وحين يضاف إلى هذا الحرمان، قائمة الآثار النفسية الناجمة عن التعرض لظروف الحرب والموت وفقدان الأهل والأخوة والأصدقاء في هذه السن الصغيرة، تتحول الصورة من قاتمة إلى قاتمة جداً.

كيف ستنظر هذه الأجيال إلى مفاهيم مثل الحق والعدل والخير والمساواة والتسامح وقبول الآخر والرحمة والأمان والسلام؟، وما احتمالات انضمام هؤلاء لجماعات التطرف والعنف؟، وما الذي سيورثونه لصغارهم بعد سنوات؟، وهل علاج هذه القائمة مسؤولية أهالي هؤلاء الصغار وأنظمة الدول التي يعيشون فيها أو الجماعات التي يجدون أنفسهم في قبضتها؟، أم أنها مسؤولية الجميع؟

المؤكد أن دولاً عربية عدة مثل الإمارات والسعودية والأردن ومصر ولبنان، تقدم ما يمكن تقديمه من دعم ومساعدات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه حالياً.

المستقبل، وتحديداً مستقبل ما بعد الصراع، بغض النظر عما ستؤول إليه الأوضاع، يحتاج تدخلاً من نوع مختلف، وبتعاون كل الدول القادرة والراغبة في إنقاذ هذا الجيل.. عملية الإنقاذ هذه ضرورة قصوى لأسباب إنسانية في المقام الأول، ولأن آثار هذا الحرمان لن تتوقف عند حدود دول الصراع، بل ستكون عابرة للحدود.