وهي هويات غارقة في القدم تتوارثها الأجيال عبر طقوس من العادات والأعياد التي تبعث على الفرح ليس لدى صاحب الهوية الفرح بل لدى الآخر المختلف الذي يعيش معه في الوطن نفسه، وفي المدينة نفسها، وفي القرية نفسها، بل وفي الحي نفسه..
هذه الهويات على العكس من الهويات الحرة التي يصنعها الإنسان عبر مسار وعيه في الحياة.. فالهوية الفكرية التي لا تعكس الهويات السابقة هي هوية مصنوعة من قبل الذات، كما هي الهوية الإبداعية وكذلك الهوية المهنية.
والحق أن البشر يغلفون صراعاتهم حول السلطة والنفوذ والحق المتخيل بالهويات المظلومة والهويات الظالمة التي تتقنع بالقناع القومي والديني والطائفي..
والذي ينسج هذا القناع هو المثقف ذو الوعي الرعاعي بالكينونة، وعي الكائن الذي لم يشعر يوماً بقيمة أناه الفردة، والتعويض الأرعن عن عقله البليد، والانتقام البدائي من دونيته، والوسيلة الوضيعة لتحقيق شهوة الحضور في وسط الحثالة التي أسهم السياسيون من ذوي الذهنية الميليشيوية في صناعتها.
ولا يمكن أن تصدر أفكار الحق والمواطنة والعدالة والإنصاف والحرية التي هي أفكار المصير المأمول عن هذا التعصب الهوياتي الآنف الذكر. إن التعصب لتلك الهويات المتضادة مع الهوية الوطنية التي تؤمن بالاختلاف والحق بالتعبير الواقعي عن هذا الاختلاف وتعترف به لا يمكن أن ينتج عنه إلا ميليشيات قاتلة.
الواقعة التي تدعو إلى الدهشة بأنه قد مضى زمن طويل على التعايش الهوياتي في بلاد العرب من المحيط إلى الخليج، فما الذي أيقظ هذا الصراع في بعض أصقاع بلادنا؟ ما الذي أنتج العصبيات الدينية والطائفية والقومية في بلاد الشام والعراق؟
إن الفلكلور الشعبي والموسيقى والشعر والإرث الثقافي المبدع، والاحتفالات بالأعياد الوطنية والأعياد الدينية المشتركة، وتقدير الأسلاف الذين صنعوا الحضارة وأنتجوا العلوم وكل هذا فلسفة للحياة الخالية من الأوهام القاتلة المرتبطة بالهويات..
ولهذا فلقد عرف كثيرون الوطنية بأنها حب.. حب جميع سكان الوطن وطنهم بكل ما ينطوي عليه من تنوع واختلاف، فاللغة والانتماء والحب هي صفات الهوية المشتركة التي تحمي المجتمع من الأيديولوجيات النافية للوحدة الوطنية.