بحديثه حول الخريطة الكبرى لإسرائيل، يبشر نتانياهو قومه عموماً، وبطانته من اليمينيين المتطرفين بخاصة، بأنه مازال أميناً على تحقيق التصور الأسطوري المتعلق بتمدد دولته بين النيل والفرات..

لكنه من جانب آخر يبعث برسالة شؤم تنذر محيط إسرائيل الإقليمي بالتوسع المشفوع حتماً بعمليات هدم وبناء وإعادة هيكلة جغرافية وديمغرافية وجيواستراتيجية واسعة النطاق. هذا الحديث يقدم تفسيراً معقولاً لمسألة تجاهل ما يسمى بوثيقة إعلان إسرائيل 1948 لتعيين حدود هذه الدولة، طبقاً لقرار هيئة الأمم المتحدة الشهير رقم 181 بتقسيم فلسطين. وكان قبول عضوية إسرائيل بالهيئة على الرغم من هذه النقيصة من أوائل الخطايا الأممية في التعامل مع هذه الدولة.

هذا لأن ذلك القرار تضمن تحديداً دقيقاً لحدود الدولتين المزمعتين العربية واليهودية، وكان استقبال طلب إسرائيل بالاعتراف بها وبعضويتها، رغم خلوه من تعيين حدودها المذكورة في القرار، يثير مظنة القبول بتعديها على أصل خريطة التقسيم واستقطاع نحو نصف إقليم الدولة العربية بالقوة جراء حرب 1948 / 1949.. ومن المعلوم أن هذه المظنة باتت بعد ذلك أمراً واقعاً، ومن النادر أن يشار إلى هذا العوار داخل الأروقة الدولية ذات الصلة.

لم يأتِ تجهيل حدود الدولة في الوثيقة التأسيسية الإسرائيلية ولأبعد ذلك عن غفلة أو نسيان. يتأكد لدينا ذلك إذا علمنا أن النقاشات والمناظرات التي اضطلع بها ما عرف بالمجلس الحكومي اليهودي المؤقت، بزعامة دافيد بن غوريون، على مدار الشهور الفاصلة بين صدور قرار التقسيم وبين إعلان قيام الدولة (نوفمبر 1947 – مايو 1948)، تطرقت بقوة لمسألتي حدود الدولة العتيدة ودستورها..

وقد تضمنت بعض مسودات الوثيقة التأسيسية التزاماً بالحدود الواردة في قرار التقسيم.. ثم جرى إسقاطها عمداً في النص النهائي!.. تماماً كما تم مع النص الخاص بالدستور.

كانت النتيجة أن ظلت إسرائيل حتى اليوم دولة بلا حدود معلومة وبلا إطار دستوري صارم.. وكانت عبرة هذا التغافل التي أعاد نتانياهو استحضارها أخيراً، هو إبقاء جغرافية الدولة في حالة من السيولة والهيولية، والتأهب للتمدد المطاطي في الرحاب الفلسطينية أولاً، ثم في الفضاء الإقليمي تالياً، ما استطاع الإسرائيليون وحلفاؤهم الدوليون إلى ذلك سبيلاً!.

يرتبط جدلياً بقضية التعمية على حدود إسرائيل إنه لا يعرف لها أيضاً حدود سكانية معلومة.. إذ إنها باشتقاق ما يعرف بقانوني العودة والجنسية، تجعل من كل يهودي يطأها بأقدامه مواطناً فيها..

ويبدو أن أفقاً سكانياً هذه سماته وطبيعته يظل قابلاً للتمدد وليس من الحكمة حصره في نطاق حدود معلومة. ولنا أن نلحظ بالخصوص كيف أن هذه الدولة تكاد تكون الوحيدة على ظهر الكوكب التي زاد عدد سكانها من اليهود 11 مرة خلال أقل من 80 عاماً.. ترى هل يعتقد نتانياهو بأن دولته بحاجة للتوسع جغرافياً على الغرار ذاته؟!.

الاعتراف بأي دولة يتصل ضمناً بحدود إقليمها.. هذا لأن سيادة أي دولة لا تمارس بجميع المعاني، إلا في نطاق هذا الإقليم، وبالنسبة لنموذج إسرائيل ثمة 165 من أصل 193 دولة عضو في الأمم المتحدة يعترفون بها.. لكن الأرجح أن السواد الأعظم من هؤلاء المعترفين، بما في ذلك الهيئة الأممية ذاتها، ليس لديهم وثيقة رسمية تتعلق بحدود إسرائيل!.

وطالما أن هذا الاعتراف ينطوي على دلالات صارخة موصولة بحدود الدولة الأخرى الفلسطينية المنصوص عليها في قرار التقسيم، أو حتى المدرجة في أضابير تسوية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني فيما يعرف بحل الدولتين.

فينبغي لزاماً إما مطالبة إسرائيل بتعيين حدودها بلا مواربة أو ميوعة، وإما مطالبة الدول المعترفة بها بتعيين الحدود التي يعترفون في نطاقها بهذه الدولة بلا زيادة أو نقصان.

بدون الوفاء بهذه الاستحقاقات القانونية السياسية بصفة عاجلة وعملية، فربما تظل الأبواب مشرعة أمام نتانياهو ومؤيديه، للطمع في إسقاط خرائطه الأسطورية على أرض الواقع، بكل ما يتأتى عنها من تداعيات مأساوية، فلسطينياً وشرق أوسطياً وربما عالمياً.