في الترحال تختبر الجماعة نفسها وتعيد ترتيب علاقتها بالزمان. الصحراء الإماراتية شكلت فضاءً لتوليد المعاني، حيث ترجم البدو الشعر في وصف النجوم والدروب، وحولوا القسوة إلى أداة لصقل القيم الكبرى: الصبر، الكرم، الشجاعة، والإيثار.
لهذا ظل الترحال في الإمارات قيمة وجودية، يتوارثها الناس في الحكايات الشعبية وفي الفنون مثل «العيالة» و«الأهازيج البحرية»، حيث يتحول السفر إلى رمز للاستمرارية ومدرسة مفتوحة تغرس في النفوس معنى الانتماء.
وُلد كتابه «ماتشو بيتشو» السادس في 2024، ومن خلال 95 صفحة، يأخذنا الكاتب إلى عمق ذاكرة التاريخ، حيث تتداخل الأسطورة والواقع في كل زقاق من الحجارة التي تقف شامخة في وجه تعاقب القرون.
وهنا يتجسد السرد في النص بين صوت الرحالة الذي سبر أطلال الإنكا، وصدى التاريخ القديم الذي يهمس بروائع مدينة تتوارى وتعود لتبوح بأسرارها.
يجتمع الطابع التوثيقي مع السرد الشعري في بوتقة واحدة، ليشكل نوعاً من «السيرة الحلمية» التي تأخذ القارئ في رحلة بين التائه والعالم، بين النوستالجيا والتحدي البشري الذي يختبر الأسطورة في داخله.
صحيح أن الجغرافيا متباينة بين جبال الأنديز في بيرو وصحاري الإمارات الممتدة وسواحلها المشرعة على البحر، غير أن جوهر الرحلة واحد: البحث عن معنى يتجاوز حدود المكان. الترحال عند الكربي يتجاوز السياحة والاكتشاف، ليصبح محاولة للغوص في أعماق حضارة غابرة، تسبر رموزها وتعيد وصلها بالحاضر.
وبالمثل، كان الترحال الإماراتي القديم ــ سواء في رحلات الغوص على اللؤلؤ أم في القوافل الصحراوية بين الواحات والأسواق ــ تجربة معرفية وإنسانية تبقي الذاكرة الجمعية حية في الحكايات والأساطير والأهازيج التي ما زالت تتردد حتى اليوم.
وهكذا يفعل الكربي وهو يتتبع خطوات حضارة الإنكا، محاولاً أن يستخرج من صمت الأطلال حكمة جديدة، تشبه ما كان الأجداد يلتقطونه من حكمة الصحراء حين كانوا يقولون: «من عرف الصحراء عرف الصبر».
ومثلما جعلت الرحلة الإماراتية من الغوص على اللؤلؤ أو من الترحال الصحراوي إرثاً ثقافياً يشهد على قوة الإرادة الإنسانية، تستحضر رحلة الكربي تلك الروح في صورة جديدة: البحث عن مدينة مفقودة لحفظ إنسانية الإنسان من الضياع في دوامة العابر والآني.
فالترحال في النهاية هو الفعل الذي يمنح التراث حياة متجددة، ويربط الماضي بالحاضر، ويحفظ في ذاكرة الشعوب بريقاً لا يخبو.