يبدو الحديث عن أمور أخرى غير الحروب والصراعات والكوارث الحالية أمراً بالغ الصعوبة، لكن الحكمة تملي علينا أحياناً الخروج بعيداً عن تلك الدائرة المميتة نفسياً وعصبياً للتفكير في المستقبل.

كل ما سبق من مجريات وأوضاع ضاغطة ومستنزفة للوقت والجهد والأعصاب ستنتهي، لكن ما لن ينتهي هو المستقبل. مستقبل المنطقة يبدو حالياً في وضع ضبابي.

لكن الضبابية ستنقشع، ووقتها سيتضح أن الدول التي قاومت الانجراف في دوامة الصراعات والاكتفاء بالدوران في فلكها مستعدة لهذا المستقبل الذي يطرق الأبواب، مع العلم أن مقاومة الانجراف والغرق في الصراعات الآنية لا يعني أبداً التغاضي عنها، أو التقاعس عن تقديم كل ما يمكن تقديمه من عون ودعم وجهود لإنهاء حلقة الصراع المميتة.

قبل نحو شهر، أصدرت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) تقريراً عنوانه: أي مستقبل للمنطقة العربية في زمن الذكاء الاصطناعي؟، وللأسف لم يحظَ بالقدر الكافي من الاهتمام، وذلك تحت ضغط الظرف الآني المهيمن على المنطقة.

التقرير يستعرض الدور التحويلي للتكنولوجيا، وإمكاناتها في إعادة رسم ملامح التنمية والحوكمة والنمو الاقتصادي في المنطقة العربية، بالإضافة إلى آثار هذا التحول على آثاره الواسعة على المنطقة حتى عام 2040.

إن الطفرة غير المسبوقة التي يشهدها العالم في تطور الذكاء الاصطناعي ربما تكون غير محسوسة لكثيرين في المنطقة العربية، وذلك بحكم هيمنة الصراعات وآثارها، إن لم يكن بشكل مباشر، فعبر القلق والتخوف منها، والتضامن مع الضحايا.

وجهود تقديم كل أنواع المساعدة والإنقاذ. الذكاء الاصطناعي القادم بثقة وسرعة وتحديث على مدار الساعة، يطرح تحديات معقدة عدة بينها المعضلات الأخلاقية، وطريقة التعامل مع حوكمة البيانات، والتحيز الخوارزمي.

وتفاقم أوجه عدم المساواة الناجمة عن تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي، وغيرها من التحديات التي يبدو طرحها الآن أمراً غير مهم أو ذا أولوية في ظل الأوضاع الراهنة، وهذا رد فعل طبيعي ومتوقع، ولكن المطلوب هو بذل جهد مضاعف للجمع بين التعامل مع الوضع الصعب الراهن.

وكذلك المضي قدماً في طريق الاستعداد لما هو قادم على صعيد التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، لاسيما أن كليهما لن ينتظر إلى أن ننتهي من التعامل مع الوضع الآني، ثم يتيح لنا فرصة اللحاق بالركب.

بحسب التقرير، واصلت المنطقة العربية منذ عام 2022 تعزيز قدراتها في المجال التكنولوجي، متجاوزة معدلات تبني الهواتف المحمولة والإنترنت.

وبحسب رؤى العين، فإن الهواتف المحمولة والإنترنت أدوات تمكين متوفرة في أيادي ملايين العرب في المنطقة، بمن فيهم العالقون في مناطق الصراعات الحالية. والنسبة الأكبر من هؤلاء، وذلك بحكم التركيبة الديموغرافية العربية هم من صغار السن.

الأرقام تشير إلى نسبة 32 % تقريباً من السكان العرب في الفئة العمرية بين 15 و24 عاماً، مع ارتفاعها في دول مثل مصر لتصل نسبة السكان تحت سن 30 عاماً إلى 60 %.

جزء كبير من أهمية التقرير يكمن في لفت الانتباه إلى أن الذكاء الاصطناعي يغير سوق العمل بينما نتكلم. توقعات سابقة أشارت إلى أن الذكاء الاصطناعي سيلغي نحو 83 مليون وظيفة عالمياً، لكنه سيخلق 69 مليون وظيفة جديدة، والمنطقة العربية ليست استثناء، وذلك في حال لحقت بالركب.

فجوة المهارات تظل أكبر عقبة أمام قدرة الشراكات على التحول، وهي عقبة بدأت بالفعل، وكلما سارعت إلى علاجها، قلصت الخسائر وعظمت من الفوائد المستقبلية، وهذا ما تفعله دول مثل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية.

مستقبل سوق العمل العربي مرهون بقدرة الدول ومؤسساتها وقطاعها الخاص والاستثماري على تحديث البنية التحتية الرقمية، والاستثمار الجاد والمدروس في تنمية المهارات وتوجيه دفة التعليم والتدريب في هذا الاتجاه، مع وضع قواعد تنظيمية واقعية ومستدامة.

وبالطبع، تظل مجالات التعاون العربي في مجال الذكاء الاصطناعي والاستفادة من المهارات والإمكانات المختلفة الموجودة أمراً بالغ الأهمية ينتظر التفعيل. خلاصة القول إن سوق العمل يعاد هيكلته. وضمان المستقبل يبدأ بالجاهزية والمواكبة والاستباق، لأن المفاجآت دون استعداد ستكون صادمة.