جرى الحديث عن الدول الناشئة منذ فترة، خاصة بعد الحرب الباردة، والتي انتهت بنصر مبين للمعسكر الغربي. وكان انهيار سور برلين علامة فارقة لحقبتين شهدتا الكثير من المآسي والحروب. انتشى الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، حيث تصدرت المشهد الدولي، واحتفت واشنطن بلحظة القطب الأحادي..
وخرجت الولايات المتحدة حينها من حرب الكويت، حيث دحرت قوات العراق في معركة غير متكافئة، ورغم ذلك صرح الرئيس جورج بوش الأب، بأننا تخلصنا من عقدة فيتنام إلى الأبد، وأن ما نقوله يسري.
وقد أعلن المفكر الأمريكي، فرانسيس فوكوياما، تماهياً مع العصر، نهاية التاريخ.. بمعنى أن غياب الصراع، والذي هو محرك التاريخ، سيعني نهاية تطور التاريخ مع سقوط جدار برلين، وأن النموذج الرأسمالي والديمقراطي لا بديل لهما. نظرة فوكوياما مخالفة لأستاذه، صامويل هنتنغتون.
والذي قال إن العالم يتجه نحو صراع الحضارات، بعد صراع الأيديولوجيات بين الشرق والغرب، إبان الحرب الباردة، وإن الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية الغربية، ستدخلان في مواجهة، وإن الحضارة الإسلامية ستتحالف مع الحضارة الصينية ضد الغرب المسيحي.
رغم أن المفكرَين لهما صيت ذائع وتأثير نافذ في الولايات المتحدة والعالم، إلا أن نظرتهما يكتنفها التبسيط المخل. وقد شهد العالم صراعات جمة منذ الحرب الباردة، ما يعني أن التاريخ مستمر بحلوه ومره، وأن الصراعات تتقاطع مع الحضارات، ولا تتسق معها.
وقد استغلت الولايات المتحدة لحظة القطب الأحادية، وخاصة بعد أحداث سبتمبر الإرهابية، وقامت بغزو دولتين، هما أفغانستان وبعده العراق، كما أعلنت الحرب على الإرهاب، وحاولت صياغة العالم بما تراه صحيحاً. وقد تزعّم المحافظون الجدد هذا التيار لتغيير العالم، وتنفيذ أجندتهم بتحويل العالم إلى صورة الولايات المتحدة.
وفي خضم هذا التجاذب والتحولات البنيوية للنظام العالمي، بدا الحديث عن أن هناك قوى جديدة تصعد إلى المشهد الدولي.. هذه القوى الجديدة متمثلة بدول الجنوب، لا سيما البرازيل والصين والهند. هذه الاقتصادات الناشئة، بدأت بالتطور والتعاظم بشكل كبير.
وقد شرعت هذه الدول بتبنّي إصلاحات اقتصادية، أطلقت العنان لقوى السوق لتعمل عملها، ما خلق فرصاً أكبر لزيادة الدخول، وصعود الإنتاجية في هذه البلدان. وتشكل هذه البلدان الثلاثة هذا العام حوالي 22.1 % من الناتج المحلي العالمي، والذي يقارب الاقتصاد الأمريكي في مجموعه.
وقد شكلت هذه البلدان الثلاثة مع روسيا تجمعاً اقتصادياً يعرف اختصاراً بـ «البريكس»، والذي تأسس في 2009، وانضمت إليه جنوب أفريقيا في السنة اللاحقة. وقد انضمت في عام 2024 عدة دول أخرى، مثل الإمارات وإيران ومصر وإثيوبيا، وفي العام التالي، انضمت إندونيسيا، وهناك دول أخرى مرشحة للانضمام إلى المجموعة.
ما يثير الاهتمام، أن الدول الأصلية الأربع (البرازيل، والصين وروسيا وجنوب أفريقيا)، يحتلون مساحة ضعف مساحة مجموعة السبع. كما أن عدد السكان للدول الأربع، حوالي أربعة أضعاف دول مجموعة السبع، ومجموع الناتج المحلي (القوة الشرائية) لهذه الدول يزيد على مجموعة السبع 51.6 تريليوناً إلى 48 تريليون دولار.
ورغم كل هذا التقدم الذي أحرزته الدول، وتحرزه هذه الاقتصادات الناشئة، إلا أن الدول الغربية لا تزال تسيطر على المؤسسات الدولية المالية والسياسية والثقافية. كما أن الإنفاق العسكري لمجموعة السبع، يزيد على هذه الدول الأربع من 1.20 تريليون دولار، إلى 0.48 تريليون دولار.
ويبقى السؤال، مع عودة التنافس الجيوسياسي، هل يعود التاريخ؟، لا شك أن كتلة البريكس ليست كتلاً تمثل مجموعة حضارية، كما افترض هنتنغتون، وأن الصراع ليس صراعاً حضارياً..
الصراع هو صراع جيوسياسي وجيواقتصادي، وينحو إلى تنافس جيوتكنولوجي.. لم ينتهِ التاريخ كما توقع فوكوياما، بل يبرز بقوة في المشهد العالمي.