قبل أن تتوالى مؤخراً اعترافات بعض قوى أوروبا الغربية بالدولة الفلسطينية، بشكل عاجل فوري أومؤجل إلى سبتمبر المقبل ومرهون بتوفر شروط معينة، كان أكثر من ثلثي أعضاء الأمم المتحدة قد سبقوا إلى هذه الخطوة..

لكن إسرائيل لم تعبأ بمواقف هؤلاء السباقين، لا من حيث الكم أو الحيثية والمكانة، رغم اشتمالهم على قوى وازنة دولياً أو إقليمياً، قدر استشاطتها وغضبها من الانعطافة الأوروبية.

إذا صدق عزم الأوروبيين، بالإضافة إلى كندا وأستراليا ونيوزيلندا، وشفعوا القول بالفعل بين يدي الدورة الـ80 للأمم المتحدة، فسيكون هذا تحولاً فارقاً في مجرى الصراع على أرض فلسطين..

ذلك لأنه في جوف هذه الكتلة الدولية وتضاعيف حيواتها الاجتماعية والثقافية والفكرية والأيديولوجية والسياسية، نشأ ما عرف بـ«المسألة اليهودية»، وتفاعلت وقائع تاريخية أفضت إلى بدعة معالجتها على حساب الشعب الفلسطيني، وتبلور ما يصح تسميتها بـ«المسألة الفلسطينية».

لأكثر من 100 عام ودول غرب أوروبا، بريطانيا وفرنسا خاصة، والتي احتضنت إسرائيل الفكرة ثم الدولة، تراوغ وتحاول غسل أيديها من هذه المسألة الأخيرة.

وتساعد إسرائيل على تغييب الكيانية السياسية الفلسطينية، وتحجم عن الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة.. وقد ظل هذا التوجه ثابتاً ومؤثراً، على الرغم من دراية القوم بمخالفته للشرعيتين التاريخية والحقوقية المناصرتين للفلسطينيين.

بشيء من المبالغة يمكن القول إنها المرة الأولى منذ العام 1948 التي تنفك فيها عقدة عزوف قطاع واسع من عالم الغرب، عن مقاربة إسرائيل وفلسطين بقدر لافت من المساواة، الذي يعنيه الدعم العتيد لحل الدولتين..

وقد نذهب أيضاً إلى أنها المرة الأولى منذ ذلك العام، التي تتلاقى فيها إلى حد بعيد مواقف معظم الحكومات الأوروبية مع حراكات الرأي العام، على أسس التسوية الممكنة للصراع الدامي في فلسطين..

وهو تلاقٍ يشي بالانعتاق الشعبي والحكومي الملحوظ من عقدة الذنب تجاه اليهود عموماً، لا سيما الجانب الموصول بتاريخ المحرقة الشهير، وبإرهاصات لتحرر شرائح أوروبية واسعة من رهاب وصمة اللاسامية المعلبة، الذي طالما أحاط بمن ينتقدون سلوك إسرائيل.

بسياساتها فائقة التوحش، التي تخطت كل حدود المعقول في عدوانها على غزة خاصة والضفة نسبياً قبيل وغداة أحداث السابع من أكتوبر، ساهمت إسرائيل بالقسط الأوفر من زحزحة عرابيها الأوروبيين عامة عن تصوراتهم وسياساتهم المنحازة إليها تقليدياً، ورب مجادل هنا بأن السيرة الذاتية لإسرائيل منذ ولادتها القيصرية، مفعمة بالمحطات السوداء الدامية على الصعيدين الفلسطيني والإقليمي..

فما الذي دهى رعاتها التاريخيين، بحيث تجلت وتكثفت نذر سخطهم عليها في المحطة الراهنة؟! الأمر وما فيه أن سلوك إسرائيل في سياقه الراهن، بلغ من الشراسة والتعدي الصارخ على القيم القانونية والإنسانية والأخلاقية المستقرة، بما تخطى النقطة الحدية، التي ما كان للأوروبيين أنفسهم السكوت عندها، واستئناف سياساتهم الإسرائيلية والفلسطينية الرجراجة والمستفزة المعتادة..

ففي إطار دمغ إسرائيل ورميها، بمعرفة محكمة العدل والمحكمة الجنائية الدوليتين، بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، وملاحقة بعض قادتها، بمن فيهم رئيس وزرائها نتانياهو، بهذه الموبقات، ضاقت بوجه الأوروبيين مساحة المواقف المائعة، ولم يعودوا يطيقون صبراً على هذا المروق الكبير المجافي لأيديولوجيتهم وشعاراتهم الحقوقية والإنسانية المفترضة.

ويتصل بذلك أن إسرائيل بمواصفاتها المشؤومة المدانة، باتت تستدعي إلى الذاكرة العالمية صفحات سوداء اجتهد الأوروبيون عقوداً لطيها، تتعلق بزمن النازية والفاشية.. ومع ذلك فإنها تدعي انتماءها إليهم واستلهام منظومتهم القيمية..

ولا يبدو مشرفاً لهم الاستمرار في مباركة هذا الادعاء، بدون اتخاذ إجراءات احتجاجية أو تأديبية بحقها، والتي نعتقد أن اعترافهم ببعض الحقوق الفلسطينية الطبيعية يمثل واحداً موجعاً منها.

ولا يقل عن ذلك، دافعاً لهذا الإجراء، رغبة الأوروبيين في النأي بأنفسهم عن أصداء ادعاء إسرائيلي آخر، هو تمثيلها ليهود العالم الذين يعيش نحو 1.5 مليون منهم بين ظهرانيهم. العبرة هنا أن الاعتراف بفلسطين هو أكثر الحلول الضامنة لعدم تأبيد صراع طال أمده بجوارهم الإقليمي.

ووضعت جولته المتفاعلة، بدموية فائضة، قطاعات من مجتمعاتهم على شفير فتنة خلافات ومجادلات لا تحمد عقباها على سلامهم الداخلي، بين مؤيدي إسرائيل ومنتقديها، بما في ذلك بين المواطنين اليهود أنفسهم.

باعترافهم بفلسطين الدولة يقر الأوروبيون بأن ما بين النهر والبحر ليس فضاء «دولتياً» لليهود وحدهم كما تدعي إسرائيل.. لكن ما لم يتعزز هذا الإقرار بالأدوات اللازمة لتفعيله على أرض الواقع، التي يستحوذون على الكثير جداً منها، فإنه قد يبقى مجرد قفزة في الهواء.