منذ بدء حكومة بنيامين نتانياهو حربها الدموية بمراحلها المتتابعة على قطاع غزة في الثامن من أكتوبر 2023، بكل ما تشهده من فظائع غير مسبوقة على كل الأصعدة الإنسانية، وهناك حرص مستمر واستراتيجي من هذه الحكومة على أن تظل هذه الحرب وكل فصولها وحلقاتها المأساوية على الأرض في جنح الظلام.

وكان هذا يعني ولا يزال، بالنسبة لتلك الحكومة، ألا يسمح الجيش الإسرائيلي بدخول أي صحافي أو إعلامي، سواء أجنبي أو إسرائيلي، القطاع لتغطية مجريات الحرب، طيلة ما يقرب من عامين من بدئها.

وطوال تلك الفترة تزاحم مئات المراسلين لمختلف وسائل الإعلام العالمية في إسرائيل، في انتظار أن تسمح لهم السلطات الإسرائيلية بدخول غزة لتغطية الحرب، ووصل عددهم في بدئها لنحو 1800 صحافي.

إلا أن الحظر على هذا كان شاملاً وصارماً، لم يفلت منه من الصحافة العالمية سوى 3 وفود مراسلة لوسائل إعلام أمريكية، سُمح لها بمرافقة القوات الإسرائيلية بداخل غزة لساعات قليلة للغاية، وحتى على صعيد الإعلام الإسرائيلي طبقت حكومة نتانياهو قواعد حظر دخول قطاع غزة نفسها، إلا باستثناءات نادرة سمحت بها بشرط مرافقة الصحافيين الجيش الإسرائيلي ولساعات محدودة، ومرة واحدة تسللت فيها مراسلة قناة CNN الأمريكية إلى داخل القطاع لساعات عدة.

وعلى الرغم من مئات المطالبات من وسائل الإعلام العالمية والمنظمات الأممية والدولية للسلطات الإسرائيلية بالسماح للمراسلين الأجانب بدخول غزة لتغطية الحرب، فقد كان القرار الإسرائيلي غير قابل للتغيير وصارماً «لن يدخل أحد من هؤلاء إلى القطاع».

وبدا مؤكداً في ظل هذا أن لدى إسرائيل ما تخفيه أو تخشى من كشفه في هذه الحرب الدموية، ولهذا خرقت سمة أساسية للدولة الديمقراطية التي تزعم أنها كذلك، وهي حرية تداول المعلومات والرأي والتعبير وحق الرأي العام في التعرف على الحقائق من خلال إعلام حر.

من هنا لم يكن أمام وسائل الإعلام في مختلف دول العالم، لتغطية ما يجري في غزة، سوى الاعتماد الكامل على مراسليها وممثلي وكالات الصحافة العالمية بداخلها، من الصحافيين والإعلاميين الفلسطينيين أبناء القطاع.

وأصبح بهذا هدف حرب الظلام التي تريدها إسرائيل في غزة أكثر سهولة بالنسبة لجيشها.. فلم يكن يضير هذا الجيش أن يضيف، لأكثر من 200 ألف ضحية لهجماته بين قتيل وجريح ومعتقل من أبناء القطاع، بضع مئات أخرى من الصحافيين والإعلاميين الفلسطينيين.

وهكذا، وبحسب جميع المصادر الدولية والأممية، أضحت غزة هي معسكر الإبادة الأوسع والأكثر توحشاً للصحافيين والإعلاميين منذ أن عرفت البشرية مهنتهم..

فحسب منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة، وصل عدد الصحافيين القتلى في كل بلدان العالم التي شهدت نزاعات في عام 2022 إلى 23 صحفياً، مقارنة بعدد 20 منهم في العام السابق عليه.

بينما بلغ عدد المقتولين منهم عام 2023 في غزة وحدها، 24 صحافياً فلسطينياً.. بينما أكدت لجنة حماية الصحافيين في نيويورك أن عدداً قياسياً من الصحافيين قتلوا في أنحاء العالم عام 2024، وأن إسرائيل مسؤولة عن مقتل نحو 70% منهم، وبحسب بيانات هذه اللجنة.

فقد قتلت القوات الإسرائيلية منذ بدء حربها في قطاع غزة وحتى اللحظة 178 صحافياً فلسطينياً، وأصابت بجروح مختلفة نحو 90 آخرين، بينما تم اعتقال قرابة 130 لا يزال مصيرهم مجهولاً.

من جهتها، أكدت منظمة العفو الدولية، في بيان أخير لها، أنه لم يسبق لأي نزاع في التاريخ الحديث أن حصد هذا العدد الكبير من الأرواح في صفوف الصحافيين، مقارنة بالإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، مطالبة بإجراء تحقيق مستقل ومحايد في قتل الصحافيين الفلسطينيين، وتحقيق العدالة والتعويض لعائلاتهم.

إن ما يجري في غزة من تصفية وتعمد استهداف الصحافيين والإعلاميين من الجيش الإسرائيلي، وصولاً إلى تلك الأرقام القياسية غير المسبوقة، يؤكد أن الحرب التي تجري هناك منذ قرابة العامين، ليست فقط دموية وتتنافى مع كل قواعد القانونين الدولي والإنساني، بل هي أيضاً حرب الظلام الأولى في التاريخ الحديث، التي لا تريد السلطات الإسرائيلية للرأي العام العالمي أن يراها على حقيقتها بكل تفاصيلها المروعة.