تمثل الألعاب الشعبية الإماراتية مدرسة اجتماعية ثقافية وتربوية متكاملة، تقوم على مبادئ الحياة البسيطة التي عاشها الأجداد، لكنها تحمل في جوهرها فلسفة متكاملة للتنشئة، وصقل الشخصية، وتوريث القيم. فهي، من وجهة نظري البحثية، عبارة عن نظام ثقافي تربوي وفضاء مفتوح لتجربة الحياة وأدوارها المستقبلية.

كانت الألعاب الشعبية في ما مضى وسيلة دقيقة لتعليم الأطفال الانضباط، واحترام القوانين، والعمل بروح الفريق. يتعلم الصغار من خلالها كيفية الانتظار لدورهم، واحترام حق الآخرين في اللعب، وحل الخلافات بأسلوب ودي. كما أنها كانت تهدف إلى تنمية مهارات التخطيط المسبق والبسيط لتحقيق الهدف.

وفي جانبها البدني، هي أداة لبناء الجسم السليم، إذ تمنح الأطفال فرصة للجري والقفز والتسلق والتصويب وتقوية العضلات وزيادة القدرة على التحمل.

ثقافياً، تشكل الألعاب الشعبية مستودعاً حياً للتراث الشفهي واللغة. كثير من هذه الألعاب يرافقها غناء جماعي، أو أهازيج قصيرة، أو عبارات تشجيعية باللهجة الإماراتية، وهي نصوص قصيرة تحمل في طياتها حكماً شعبية، أو دلالات رمزية، أو حتى دعابات طريفة تعكس روح المجتمع. هذه الأهازيج عملت عبر الأجيال كأداة للحفاظ على مفردات اللهجة وتراكيبها، ونقلها من جيل إلى آخر.

اجتماعياً، كانت الألعاب الشعبية بمثابة منصة مفتوحة للتواصل بين الأطفال من مختلف أعمارهم، والأسر. في الفرجان والساحات، وعلى الشواطئ، وفي المزارع، كان يجتمع الصغار والكبار في أجواء من الألفة والمشاركة، حيث يغدو الجميع جزءاً من نسيج اجتماعي واحد.

حتى الفتيات، اللاتي كانت لهن ألعاب مخصصة تراعي طبيعة أدوارهن الاجتماعية، كنّ يشاركن في بعض الألعاب المشتركة، وبخاصة تلك التي تتسم بالطابع الغنائي، حيث تختفي الفوارق مؤقتاً أمام البهجة وروح الجماعة.

هذه الألعاب كانت تعمل كجسر بين الأجيال، حيث يشارك الكبار أحياناً في تعليم الأطفال القوانين أو الإشراف على سير اللعب، بل وقد يروون لهم قصصاً أو أمثالاً مرتبطة بالألعاب، ما يجعلها وسيلة لتبادل الخبرات وحفظ الذاكرة، وتعزيز الانتماء.

إن فهم الألعاب الشعبية الإماراتية لا يعني فقط دراسة أشكالها وقوانينها، بل قراءة عميقة لدورها في تشكيل البنية الاجتماعية، وحماية الهوية الثقافية.

البيئة الإماراتية، بتنوعها الجغرافي والمناخي، كانت ولا تزال المحرك الأساسي في تشكيل ملامح الألعاب الشعبية وتحديد طبيعتها وأدواتها وأسلوب ممارستها.

فمنذ القدم، عاش سكان الإمارات في بيئات متباينة: ساحلية، صحراوية، وجبلية، ولكل منها خصائصها التي انعكست بوضوح على طبيعة ألعاب الأطفال والشباب.

هذا التفاعل العميق بين الإنسان وبيئته جعل الألعاب الشعبية أكثر من مجرد نشاط ترفيهي، بل سجلاً حياً يروي حكاية التكيف والابتكار والاندماج مع المحيط.

في المدن والقرى المطلة على البحر، مثل أبوظبي، دبي، الشارقة، عجمان، أم القيوين، رأس الخيمة، والفجيرة، ارتبطت حياة الناس بالبحر ارتباطاً وثيقاً، وكان الصيد والغوص على اللؤلؤ أهم أنشطة المعيشة، فانعكس ذلك في الألعاب التي ابتكرها الأطفال، وظهرت ألعاب تحاكي الصيد، مثل لعبة «صياد السمك» التي تتطلب مهارة في التخفي والانقضاض السريع على الهدف، أو ألعاب السباحة والتجديف في المياه الضحلة، أو المسابقات التي تستخدم الأخشاب الطافية كوسيلة للتسابق أو التوازن.

وكان البحر أيضاً مصدراً للأدوات، إذ استُخدمت الأصداف الكبيرة كقطع لعب، والحبال البحرية المصنوعة من ألياف قوية في ألعاب الشد أو القفز، والأخشاب الطافية في صناعة مجسمات أو قوارب صغيرة. في الأمسيات، كانت بعض الألعاب البحرية ترافقها أهازيج تحاكي نداءات الصيادين أو أغاني الغوص، ما أعطاها بعداً غنائياً مميزاً.

في المناطق الداخلية مثل ليوا والعين والظفرة، شكّلت الصحراء بامتدادها وكثبانها الرملية العالية ملعباً طبيعياً للأطفال. الرمال نفسها كانت جزءاً من اللعبة، سواء عبر سباقات الجري على الكثبان، أو القفز من المرتفعات الرملية، أو ألعاب المطاردة التي تستفيد من المساحات المفتوحة، كما ابتكر الأطفال ألعاباً تستخدم الحصى الصغيرة كأدوات للرمي أو الترتيب في أشكال هندسية، أو اعتمدوا على حفر الرمال لصنع مسارات و«حفر أهداف» لمنافسات دقيقة.

هذه الألعاب لم تكن مجرد تسلية، بل دربت الأطفال على التحمل البدني، والقدرة على الحركة السريعة، ومهارات الرؤية في بيئة بلا معالم ثابتة.

كذلك في المناطق الجبلية مثل حتا ودبا ومناطق رأس الخيمة الجبلية، أفرزت التضاريس الصخرية بيئة لعب فريدة تتطلب توازناً حذراً وقوة بدنية عالية. كانت ألعاب القفز بين الصخور أو المشي على الحواف الضيقة من أبرز التحديات، إلى جانب إصابة أهداف محددة بالحجارة، وتسلق المنحدرات الصغيرة في سباقات ودية.

الأطفال في هذه المناطق ابتكروا كذلك ألعاباً تعتمد على جمع نباتات جبلية نادرة أو البحث عن أصداف متحجرة بين الصخور، ما أضفى على اللعب بعداً استكشافياً وتعليمياً في آن واحد.

وللحديث بقية.