سواء تم الوصول إلى تهدئة أو هدنة أو اتفاق بشأن قطاع غزة أم لا، وسواء هدأت الأمور في عموم الإقليم أم لا، فإن هذه المنطقة لن تعود إلى ما كانت عليه قبل 7 أكتوبر 2023.

البعض لا يزال يعتقد واهماً بأن الوصول لاتفاق أو وقف لإطلاق النار في غزة، أو حتى الاتفاق على طبيعة «اليوم التالي» هناك، أو حتى الاتفاق ما بين أمريكا وإسرائيل وبين إيران، سيعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل عملية «طوفان الأقصى» قبل نحو عامين.

هذه العملية، وبغض النظر عن الجدل والاختلاف عليها، وهل كانت مفيدة أم ضارة بالقضية الفلسطينية؟، فإن ما لا يمكن الخلاف بشأنه أنها غيّرت كل قواعد اللعبة في المنطقة بصورة من وجهة نظري لم تستفد منها إلا إسرائيل، ولم تتضرر منها إلا القضية الفلسطينية والعالم العربي.

أتحدث عن وقائع ملموسة على الأرض، وليس أمنيات أو عواطف، فقبل 7 أكتوبر كان الفلسطينيون يعيشون إلى حد ما بصورة نسبية معقولة جداً في قطاع غزة مقارنة بالوضع الحالي، صحيح أن إسرائيل كانت تحاصرهم إلى حد كبير، وصحيح أنها كانت تشن عليهم اعتداءات بين الحين والآخر، إلا أن ذلك كان ينتهي بعد أسبوع أو شهر أو شهرين بوساطة مصرية.

فلسطينيو الضفة كانوا يعانون أيضاً من التهويد البطيء، وكان المطلب الفلسطيني والعربي وقتها هو العودة إلى حدود 4 يونيو 1967.

وبعد بدء العدوان بشهور تغير المطلب الفلسطيني إلى ضرورة إقناع إسرائيل بالعودة إلى حدود 7 أكتوبر 2023، ثم تضاءل هذا المطلب في المفاوضات الحالية التي تتوسط فيها مصر وقطر والولايات المتحدة، إلى ضرورة العودة إلى خطوط 2 مارس 2025، بعد أن أصرت إسرائيل على ضرورة الاحتفاظ بـ40 % من أراضي القطاع، والآن تتحدث عن احتلال كل القطاع، وبدأت عملياً خطوات ضم الضفة الغربية، وتطبيق خطة الحسم التي يطالب بها اليمين الإسرائيلي المتطرف منذ سنوات، وتهدف إما إلى قبول الفلسطينيين العيش كمواطنين درجة ثانية تحت السيادة الإسرائيلية، أو الرحيل، أو القتل.

قبل 7 أكتوبر كان بقطاع غزة مبانٍ ومنشآت يسكنها 2.2 مليون فلسطيني، الآن نحو 75 % من هذه المباني دمرت تدميراً كاملاً أو جزئياً، ولم يعد القطاع صالحاً للحياة لفترة طويلة.

وهناك إصرار إسرائيلي أمريكي على ضرورة ترحيل أكبر قدر ممكن من سكان القطاع إلى خارجه، وربما تبدأ إسرائيل عملية مماثلة بحق سكان الضفة الغربية.

قبل 7 أكتوبر كان حزب الله في لبنان هو اللاعب الرئيسي في لبنان، وهو من يقرر تفاعلات المشهد السياسي هناك، ويضع «فيتو» على اختيار رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء، كانت لديه ترسانة من مختلف الأسلحة النوعية، خصوصاً الصواريخ، الآن تغير المشهد بالكامل، إسرائيل نجحت في توجيه ضربة شديدة لقدرات وإمكانات وموارد ومقاتلي الحزب؛ اغتالت الأمين العام للحزب، حسن نصر الله، وكبار قادته وكوادره خصوصاً في «عملية البيجر» في سبتمبر الماضي، ثم وقعت اتفاقاً لوقف إطلاق النار في نوفمبر الماضي، يسمح لها باستمرار الاعتداءات طوال الوقت وألا يرد الحزب على ذلك، ثم إنها احتفظت بالعديد من النقاط والمواقع الاستراتيجية في جنوب لبنان.

والقضية الأساسية المطروحة للنقاش الآن هي نزع سلاح الحزب، وأن يعود حزباً سياسياً عادياً، كما أن الحزب لم يعد قادراً على التأثير في اختيار رئيس الدولة أو الحكومة، مثلما كان عليه الحال قبل 7 أكتوبر كما رأينا في عملية اختيار جوزاف عون أو نواف سلام.

قبل 7 أكتوبر كان نظام بشار الأسد يشكل موقعاً مهماً، لكن استمرار الاعتداءات الإسرائيلية الممنهجة، إضافة لعوامل أخرى، أسهم في إسقاط هذا النظام، ما أدى إلى تغيرات دراماتيكية، أخطرها هو الخروج الإيراني من سوريا ودخول تركيا، وبالتالي فإن الخط الواصل من طهران إلى لبنان على البحر المتوسط مروراً بالعراق ثم سوريا قد انقطع، بل إن إسرائيل احتلت المزيد من الأراضي السورية، خصوصاً مرتفعات جبل الشيخ، وفرضت على سوريا عدم نشر أي أسلحة متقدمة خارج دمشق، وقضت على معظم قدراتها العسكرية، وأعلنت أن القوات السورية لا يمكن لها دخول السويداء بحجة حماية الدروز.

كما أن دور الحشد الشعبي قد تراجع إلى حد كبير في العراق بعد التهديدات الأمريكية الإسرائيلية، إضافة إلى الضربات التي تم توجيهها لجماعة الحوثيين في اليمن.

الضربة الكبرى كانت تلك التي وجهتها إسرائيل إلى إيران في 13 يونيو الماضي، واغتالت خلالها كبار القادة العسكريين وكبار علماء البرنامج النووي، وتدمير جانب كبير من منظومات الدفاع الجوي ومخازن الصواريخ الإيرانية بعيدة المدى، ثم جاءت الضربة الأمريكية للمنشآت النووية الإيرانية لتؤخر البرنامج النووي لفترة طويلة.

النتيجة شبه المبدئية حتى الآن لهذه التطورات أن ما كان يسمى بمحور المقاومة قد تعرض لانكشاف كبير بعد الضربات النوعية الإسرائيلية، وبالتالي صارت إسرائيل هي اللاعب الأساسي في المنطقة، ووصل الأمر برئيس وزرائها، بنيامين نتانياهو، للقول أكثر من مرة إن بلاده ستعيد رسم خريطة المنطقة من جديد. ما سبق ليس وجهات نظر، لكنها صارت حقائق على الأرض.

إسرائيل ورغم الخلافات الداخلية الشديدة والانقسامات العميقة بين قطاعات عديدة فيها حققت أهدافاً استراتيجية واضحة، وتكاد تقضي على فكرة حل الدولتين، بل وتهديد الوجود الفلسطيني نفسه، في ظل ضعف عربي غير مسبوق، وعجز وصمت وتواطؤ دولي، ودعم أمريكي غير مسبوق لإسرائيل.

من أجل كل ذلك، فإن المنطقة لن تعود كما كانت قبل 7 أكتوبر، والسؤال: هل بإمكان الدول العربية أن تواجه ذلك أو على الأقل تمنع التدهور أكثر مما هو موجود؟!