تتسارع الأحداث من حولنا وتزداد تعقيدات الحياة. في وقتٍ من الأوقات ربما يصبح التفكير الجماعي خطراً يقود إلى كوارث، لا سيما عندما يُغلق باب الشك، وتنغلق معه نوافذ الاحتمال. هنا تبرز الحاجة إلى «الرجل العاشر» الذي يحدث توازناً مطلوباً في مثل هذه الحالات والمواقف.

هذا مبدأ تتبناه بعض الأجهزة الاستخبارية العالمية. يقضي المبدأ بضرورة وجود صوتٍ مخالفٍ داخل أي مجموعةِ تحليلٍ أو صناعةِ قرار، حتى لو كان الجميع متفقاً على رأي معين.

فوفقاً لنظرية «الرجل العاشر» هذه، إذا اجتمع تسعة أشخاصٍ على استبعاد سيناريو معين، فإن مهمة الشخص العاشر تكون النظر في هذا السيناريو وكأنه واقع لا محالة. ليس لأن هذا الاحتمال أكثر منطقية، ولكن لأن طبيعة التفكير الجمعي قد تُغري بالتبسيط أحياناً، وتُهمل إشاراتٍ قد تكون بالغة الأهمية.

ثمة آراء تربط بين ظهور نظرية «الرجل العاشر» وبعض الحروب والأحداث التي وقعت في منطقة الشرق الأوسط، خلال العقود الخمسة الماضية، أدت إلى ضرورة أن يكون هناك دائماً «رجل عاشر» داخل المجموعة، دوره أن يشك، ويقاوم التيار، ويفكر خارج الصندوق، بل أحياناً ضد المنطق السائد.

لكن هذه النظرية، أيّاً كان مكان وسبب نشأتها، تجاوزت حدود الاستخبارات والدوائر العسكرية الأمنية لتصبح ضرورة في كل موقع تُتخذ فيه قرارات مصيرية؛ في السياسة، والاقتصاد، والإعلام، والتعليم، بل حتى في إدارة الشركات والمؤسسات التجارية.

فحين تُسيطر نزعة الإجماع على العقل الجمعي، تُدفن الأسئلة الصعبة، ويتحوّل القلق المشروع إلى تهديدٍ يجب إسكاته، وهنا قد تقع الكارثة التي لا يريد لها أحد أن تقع.

«الرجل العاشر» لا يعني بالضرورة أنه على صواب دائماً. لكنه أشبه ما يكون بجرس إنذارٍ قوي، يُنذر باحتمال أن يكون العقل الجمعي في طريقه إلى الهاوية. وجوده يُجبر المجموعة على إعادة النظر، على التمهل، على اختبار الفرضيات ومساءلتها.

وعلى عدم الانجراف خلف وهم المعرفة الكامل، فنحن نعيش في عصرنا هذا واقعاً تتزايد فيه المؤثرات، من وسائل الإعلام إلى الذكاء الاصطناعي، ومن «الترندات» اللحظية إلى القرارات المتسرعة. في ظل هذا الواقع، يصبح من السهل السقوط في فخ التحليل الكسول.

حيث يتبع الناس بعضهم بعضاً، معتقدين أن ما تُجمع عليه الغالبية هو بالضرورة الصواب، وينغلق الطريق أمام الآراء الأخرى، حتى لو كانت احتمالية صحتها مرتفعة ومنطقية. هنا، تأتي أهمية «الرجل العاشر» ليس كشخص، بل كآلية تفكير ومنهجية عمل. نحن بحاجة إلى من يقول: ماذا لو كنا مخطئين؟

ماذا لو أن المؤشرات التي نستبعدها هي الأهم؟ ماذا لو أن الأصوات المهمَّشة تحمل الحقيقة؟ هذا الصوت هو الضمانة الأخيرة في وجه الاستسهال، والركون إلى وهم الاتفاق.

من المفارقات العجيبة التي نجدها في المجتمعات المختلفة أنها في كثير من مراحلها التاريخية كانت تعاني من غياب هذا «الرجل العاشر». فقد سادت ثقافة التبجيل، وندر وجود الاختلاف الإيجابي داخل دوائر القرار، فكانت النتائج كارثية في كثيرٍ من الأحيان.

حينما أجمع الكل على رؤية واحدة دون أن يجرؤ أحد على كسر السرب والخروج من دائرته. من هنا، يصبح إدراج هذه النظرية في مناهج التفكير المؤسسي والتعليمي والإداري ضرورة لا ترفاً.

علينا أن نُربّي أبناءنا على احترام المخالف، لا تهميشه، وعلى طرح السؤال، لا تلقّف الجواب فقط. فالرجل العاشر ليس عدواً للقرار، بل هو حارسه الأخير. الرجل العاشر ليس متمرداً، بل هو ناقد محب وعين ثالثة تنظر من زاوية مختلفة. هو من يقف على حافة الطاولة ويقول: «ربما هناك زاوية لم نرها بعد».

عندما يعلو صوت الضجيج تكون قيمة الصمت الناقد مضاعفة، وفي زمن الوفرة المعلوماتية، يكون للتشكيك الذكي دور مهم ومؤثر وضروري. لهذا، نحن لا نحتاج وجود «الرجل العاشر» فقط، بل نحتاج أن نكون «الرجل العاشر» نفسه، كلّ من موقعه، ليس تشكيكاً في رأي الجماعة أو انتقاصاً منه، ولكن من باب الاحتياط، فقد علمتنا التجارب أن الاحتياط واجب، وأن الاحتفاظ بخطٍ للرجوع خيرٌ من قطع كل الخطوط.